جوان فرشخ بجالي
لم يعد عيد الميلاد يعني الطوائف المسيحية وحدها، بل تحوّل إلى احتفال عالمي منذ نشأة أسطورة «سانتا كلوز» وبدء المعايدات والاحتفالات التي نعيشها اليوم. فهل أعادت الثورة الصناعية والمجتمعات الاستهلاكية الزمن إلى الوراء وأصبحت التقاليد الوثنية التي أسست لشعائر هذا العيد هي أساسه الحالي؟

في 25 من كانون الأول ـــــ ديسمبر من كل سنة يحتفل عدد كبير من سكان الأرض بعيد ميلاد السيد المسيح من دون أن يعرف هؤلاء كيف حُدّد تاريخ الولادة هذا... حتى أن أنجيلَي كلّ من مرقس ولوقا لم تذكر هذا التفصيل، رغم أنها وصفت مشهد ولادة المسيح في مغارة بيت لحم.
يقول الإنجيل إن ولادة المسيح جرت في مغارة في ضواحي مدينة بيت لحم ولم يشهد عليها إلا والدته والقديس يوسف. وبحسب الأناجيل أيضاً، فقد وُضع المسيح الطفل في مذ ود للحيوانات لتدفئته لكنها لم تحدد الفترة الزمنية للولادة. هل جرت في الربيع، في الخريف أم في الشتاء؟... ولم يعط أي من تلك الكتب تأكيداً واضحاً... ويمكن القول إن الإشارة الوحيدة إلى هذا الأمر وردت في إنجيل لوقا الذي يقول إنه كان هناك رعيان يحرسون قطعانهم في الليل. وهذا ليس دليل كافياً للتأكد من أن هذا الحدث حصل في فصل الشتاء.
تبدو هذه المقدمة ضرورية لطرح السؤال الأهم: لماذا إذاً اختير 25 كانون الأول ـــــ ديسمبر لهذه المناسبة، ما هي رمزيته ومنذ متى بدأت هذه الاحتفالات؟
تتطلب الإجابة على هذه الأسئلة العودة إلى العادات الدينية الوثنية. إذ يرى مؤرّخو الكنيسة أن الاحتفال بعيد الميلاد بدأ في القرن الرابع الميلادي، وأول ذكرى له كانت في سنة 336 في روما، وأتى بديلاً من احتفالات انقلاب الشمس الشتائي عند الرومان، التي كانت تسمى بـSaturnalia نسبة إلى إله الزرع Saturn أو زحل. وكانت تلك الاحتفالات تدوم سبعة أيام يتوقف خلالها المواطنون الرومان عن العمل والحرب، ويتبادلون الهدايا... حتى أن البعض منهم كان يُقْدم على الأعمال الخيّرة فيعطي عبيده حريتهم.
وذهب بعض الرومان إلى أبعد من ذلك. فمنهم من كانوا يُبقون الاحتفالات حتى الأوّل من كانون الثاني، تاريخ بداية السنة الجديدة، محتفلين بعيد إلهين: ميترا إله الضوء عند الفرس، وزحل عند الرومان. وقد أعطت الكنيسة الكاثوليكية تفسيراً آخر لاحتفالات ميترا، مشيرة إلى أن المسيحيين لم يعودوا يحتفلون بإله الضوء بل بولادة من خلقه.
وكان لاعتماد احتفالات عيد الميلاد وقع اجتماعي وديني، إذ أرادت الكنيسة حينها تأكيد استمرارية الديانة الجديدة والتوفيق بينها وبين العادات الوثنية التي بقيت «حية» عند الشعوب حتى بعد اعتناقها المسيحية. فكل الشعوب كانت تحتفل بانقلاب الشمس الشتائي، وكان كلّ منها يعطي لهذه المناسبة إلهاً ما: من الفينيقيين إلى المصريين، ومن الألمان إلى الفرنسيين والاسكندنافيين. ويعود اختيار الـ 25 من كانون الأول للاحتفال إلى أن تلك الشعوب التي تعتمد على الزراعة أساساً كانت تحتفل بتغيّر الفصول وتحضّر لهذه المناسبة طوال أسبوع كامل قبلها.
وفي الفترة الذي كانت فيها تلك الشعوب تعيش تحت سيطرة الإمبراطورية الرومانية، مزجت بين احتفالاتها الدينية الخاصة واحتفالات الإمبراطورية للإله زحل. لذلك، حينما اعتمدت الكنيسة تاريخ الـ25 عيداً لميلاد المسيح، حوّلت معه أيضاً أيام التحضير للاحتفالات إلى أيام صلاة وتقشّف وأعمال الخير. وفي فترة القرون الوسطى كان عيد الميلاد يعدّ عيداً شعبياً يحتفل به كل أبناء المجتمع ويتبادلون خلاله الهدايا. وما يميّز الشعائر الدينية لعيد الميلاد هو استعمال الشموع والأضواء بكثافة. ففي كنيسة المهد في بيت لحم تُضاء كل مصابيحها وتوزع الشموع داخلها عند منتصف الليل نسبة إلى ولادة الإله الذي خلق الضوء، أي الحياة.
وعلى مرّ القرون، تحوّلت العادات وتغيّرت، فأصبحت شعائر العيد بشكلها الحالي. من جهة، وريثة تقاليد وثنية عمرها آلاف السنين، ومن جهة أخرى تقليد أسهمت الثورة الصناعية في خلقه. فقبل القرن التاسع عشر كانت ليلة عيد الميلاد عبارة عن احتفال ديني بسيط لأبناء الطوائف المسيحية فقط. وكانت التقاليد تقضي بأن يوزّع الأغنياء بعضاً من الهدايا على الفقراء. وما كان يميّز العيد هو قيام الأفراد بأعمال خيّرة في هذه الفترة. فكان العيد يتميز بفرحة خاصة به قائمة على الشعائر الدينية وفعل الخير، وكان متواضعاً. ولكن، مع الثورة الصناعية، وخاصة في الولايات المتحدة الأميركية، نشأت الطبقة الاجتماعية الوسطى التي غيّرت العادات والمفاهيم. فأبناؤها أرادوا أن يتحول العيد ليصبح احتفالاً دينياً عائلياً، يجتمع خلال أمسيته أفراد العائلة ويوزعون الهدايا بعضهم على بعض ويحتفلون سوية ويعطون للأطفال حقهم من هذا اللقاء. فأصبح لعيد الميلاد نكهة عائلية أكثر من أي وقت، ما مثّل حافزاً لرجال الأعمال لتحويله إلى مناسبة استهلاكية. هذا التحوّل كان السبب الأساسي لولادة عدة حركات دينية مسيحية رافضة للاحتفالات التي تراها شعائر وثنية بامتياز تقتل قلب الديانة المسيحية. وتلاقى هذا التيار الفكري مع آخر كان يعارض منذ القرن الرابع اعتماد الاحتفال بعيد الميلاد. فأورجياونس الإسكندروني، وهو أحد أبرز آباء الكنيسة، اعترض بشدّة على تكريس الـ25 من كانون الأول تاريخاً لميلاد المسيح، مشيراً إلى أن هذه الشعائر لا تعطى لابن الله بل للأباطرة والفراعنة.
وفي حين يبقى الجدل قائماً على هذه الأصعدة، تبقى الاحتفالات مثبتة كإحدى أكبر فترات المبيع في العالم. وتكمن الخطورة في أن العيد الذي يفترض أن يُسعد الأطفال بالدرجة الأولى، يجعل منهم الهدف الأول لشركات التسويق والإنتاج. ومع رواج الإعلام الأميركي، أصبح من السهل جداً تثبيت أساطير هوليوود على أنها حقائق تاريخية، فكيف إذاً يمكن أن يحافظ اليوم على جوهر الشعائر الدينية؟ وكم من هؤلاء الأطفال يعرفون أن رمز عيد الميلاد هو مغارة بيت لحم وليس «سانتا كلوز» والهدايا؟