أنسي الحاج
توقيت الفرح

مثل كلّ الذين يريدون للفرح الدوام، أكرهُ الأعياد الرسميّة.
توقيت العيد شكل من أشكال القمع، صورة عن باقي السلاسل.
مع هذا، لا يُنسى بريق عيون الناس في أجواء العيد، حشودهم، الأضواء والانفلات الجوعان في الشوارع...
هنا يحلو الاختلاط لأنه البحر الهدّار بما لا تدري يمينك ولا يسارك، فالأسماك جميعها يبحث بعضها عن بعض في هياج الموج عمياء من تعطّشها، سكرانة بخمر المجهول، بملح صيد تكون فيه صيّادة ولو صادوها.
هذا التدفّق الأوقيانوسي المزيَّن بكبت الزمان، هو روح العيد، هو العيد.
وهو ما يُكْرَه أن يؤذن له مرّات قليلة فقط في السنة، كأنه إطلاق سراح مؤطَّر بالحرّاس.




الرجال

أين أصبح الرجال؟
لا أحبّ هذه الكلمة. «رجال». تنضح بعنصريّة متوحّشة يزرزب منها دم الضحايا، ضحايا الرجال، عقولهم وسيوفهم، على مرّ الدهور. مع هذا يبقى وهجٌ في «الرجال» ملتصق بمعاني الشهامة والمروءة والتضحية. أين أصبح الرجال؟
لا أحد يتكلّف وجعة رأس بدون مكسب يراوح بين الاستيلاء والخيانة. الفقراء ما عادوا يملكون ثمن علبة الحليب ورجالات البلاد يمعنون نخراً هذا في عَظْمَة السلطة وهذا في عَظْمة خيال كروم السلطة. ليس بين هؤلاء من ينام على أقلّ من بضعة ملايين دولار، والمليارديريّة، ظاهرين ومستترين، يزداد عددهم شهراً بعد شهر. شعب مخدوع لن يحرّره أحد. رجال؟ رجال في الحكي، لا عند المصير ولا مع النساء.




لبنان وسوريا

كانت أوروبا، كلّما عصفت الأزمات بالإمبراطورية العثمانيّة، تنتهي، بعد التلاعبات المعهودة، بنجدة السلطان وزجر الكيانات المتمرّدة (مصر أو لبنان) بحجّة أن الدول الأوروبيّة غير متفاهمة بعد على تقاسم إرث الإمبراطوريّة. كان المسموح هو التهديد لا الإطاحة. سياج العرش خوف أخصامه ممّا سيليه.
يقول الأميركيون ما اختصاره إن تغيير النظام في سوريا غير مرغوب فيه لأن وارثه المحتمل، حتّى الآن، يبدو شديد السوء. وهو ما يتردّد أن الإسرائيليين يقولونه أيضاً.
دائماً كان الشرق يوحي للغرب الديمومة خارج الزمن. من شرق الصين إلى شرق العرب. حتّى بات الغرب يستمدّ بعض توازنه من هذا الثبات الشرقي الدَهْريّ. ويبدو قول كيبلينغ المأثور إن الغرب غرب والشرق شرق ولن يلتقيا أمنيةً بقدر ما هو إقرار بواقع. والأمنية مشتركة على الأرجح. الغرب يفقد توازنه إذا خرج الشرق من جموده والشرق تتعطّل أمور حياته إذا استقال الغرب من حيويّته وقبع إلى جانب بودا ذاهلاً في هدوئه الساخر. النهار والليل. الذَكَر والأنثى. الشمال والجنوب. الباقي، أي النزاعات والضحايا، تفاصيل. الحياة كلّها، لا الأنظمة والعروش، تعيش على الخوف من فقدانها.

في المواسم تُشْحَذ القرائح. يتذكّر المواطنون مطالبهم المزمنة والصحافيون مواعظهم المملّة. في كلّ صحافي صانع رؤساء، أو هكذا يَظنّ. والمسترئسون يعرفون هذه العقدة ويدغدغون غرور الصحافي حولها. لو ترى مسترئساً يطلب «التوجيهات» من صحافي! خُيَلاء الثاني وخَبْثَنةُ الأول. العهود والأنظمة تراعي مداهنة الصحافيين أكثر ممّا ترعى شؤون المواطنين.
العرب، بمَن فيهم حكّامهم، حسّاسون أكثر ما يكون لطموحات ضبّاطهم السياسيّة وكلام الجرائد. الأوّلون ينقلبون بالدبابات والصحافيّون يكتبون التاريخ. أو هكذا يظنّون. ويظنّ الحكام. ولم يعد يظنّ القرّاء.
دارج هذه الأيام التذكُّر. كلّما اكفهرَّ الحاضر ازداد خَرَفُنا. تهون لو نتذكّر صحّ، لكننا نشوّه ونزوّر وبعضنا يعملها مأجورة متّكلاً على النسيان العام.
يأتينا المبعوثون مزمومي الشفاه ويخاطبوننا كالأساتذة. المعلّم طالما كان رمز السلطة. شوارب ومسطرة وأوامر مقتضبة. صوت رفيع سمَّاوي أو جَهْوَري مخيف بهدوء. الأستاذ كاسحنا كَسْحاً. وإذا كنتِ فتاة فسيكون أيضاً على الأرجح حبيب خيالك السرّيّ. يأتينا المبعوثون صارمين ثم يذهبون إلى دمشق لطفاء. يُعصّب الرئيس بوش على الشاشة، ومن ورائها يمدّ الحبل. وتظلّ دمشق الرهيبة رهيبة، وينسى الذاهب إليها عند الحدود خيزراناته ويمسي ودوداً كالنعجة. دمشق التي ربحت في الماضي السحيق وربحت في الماضي المتوسّط وربحت في الماضي القريب وعادت الآن تربح. الشرق ينتظر كي يتعب الغرب من حركته. والغرب دائماً يتعب من الشرق. يتعب ويُظهر استسلامه كأنه ذكاء. انتظرتْ دمشق أكثر من نصف قرن لـ«تستعيد» لبنان من فرنسا واستعادته. ولم تنتظر إلاّ ثلاث سنوات لتكسر طوق الغرب عليها بسبب لبنان. صارت دمشق أحذق والغرب أقصر نَفَساً ولبنان أقلّ أهميّة في نظر خليفة جاك شيراك.

لا حياة للبنان في ظل مخاصمة سوريا ولا معنى له في قفصها. اللبنانيّون يعرفون ذلك وما زالوا يُمنّون النفس بأن يسلّم به جميع الحكّام السوريّين، وبأن لبنان «المكموش» سوريّاً قد يكون مدماكاً في بنيان النفوذ السوري الإقليمي ومصدر رزق مالي واقتصادي ولكنّه سيكون حتماً مساواة بالأرض للسمات التي يدّعي تاريخ بلدان ما يسمى الهلال الخصيب أن هذه البلدان تتمتّع به ويميّزها عن بقية العرب والشرقين الأدنى والأوسط. إن سوريا، المكتظّة بالمواهب والكفايات، النائمة على كنوز من الطاقات العقليّة والعلميّة، باتت أشدّ من لبنان حاجة إلى التفتّح والحريّة. ويقيناً أن هذا لن يتأمّن بعودة الابن اللبناني الضال إلى بيت الطاعة السوري.

الشوق لا الأرض


ما الروح؟ إنّها حيويّة ما يثيره جسدكِ. ما الدهشة؟ تنوّعات جسدكِ. الفرْحة؟ هي الدفع الذي يرسله غواكِ إلى مركبة الحياة.
والفَرَج هو البساطة المتجليّة في لاشعوركِ بتأثيركِ،
وغموضُ المسافة هو قانون الإيمان...

تحت وهج عينيكِ يصبح الناظر متوهّجاً، فالنور لنفسه مُحايد ولمَن يراه قويّ.

عندما تسكتين تُخيفين لأنّكِ تَسْحبين إليكِ بساط الحياة فيبدو مَن حولكِ مُذْنباً.
المؤلم ليس الإياب بل الذهاب.
لو أمكن الطفل أن يتحدّث عن جلجلة فطامه لمُنع الفطام أو منعتِ الرضاعة.

الموسيقيّ يحوّل الدنيا إلى موسيقى
والقاتلُ إلى ظلام
والعريُ إلى دفء
وأنتِ تحوّلينها إلى امرأة.
ليست السماءُ ما يلهمني بل جسدكِ
ليست الأرض مكاني بل الشوق
وسأظلّ مذهولاً بقدرتكِ على إشباعي من السراب.