strong>هاني نعيم
• بعد 50 عاماً من العمل بصمت... يهدي مقابلته هذه لولديه
ستة حروب عاشها آرا كيشيشيان خلال سنيه السبعين جعلته يتمسك بلبنان، الوطن الذي عاش فيه نحو 60 عاماً منذ لجأت عائلته إليه خلال الحرب العالمية الثانية. في هذا البلد امتهن التصوير وأحبّه رغم ألم خسارته الكثير من أرشيفه بسبب الحرب، السرقة... وعدم الاهتمام

لا يسع زائر مقهى «ة مربوطة» في الحمرا إلا ملاحظة الحركة التي يثيرها آرا كيشيشيان بين روّاد المقهى من جهة، ومحلّ التصوير الذي يعمل فيه عند زاوية «أوتيل بافيون» منذ عام 1975. هو صديق الجميع الذين لا ينسون إلقاء التحيّة عليه. دائم الحركة والابتسام رغم أنّ الشيب الذي غزا شعره يدلّ على أنّه تجاوز الستين من العمر... بل هي 71 عاماً قضى منها آرا أكثر من ستين في لبنان، شاهداً على ستة حروب: من الحرب العالمية الثانية حتى حرب تموز الأخيرة.
آرا أرمني، يتحدّث العربية بركاكة. يذكر أن عائلته هاجرت، خلال الحرب العالميّة الثانيّة، من الاسكندرون إلى حلب بعد أن سُلّم لواء الاسكندرون إلى الأتراك، وكان عمره حينها 3 سنوات.»ومع الوقت صارت أعداد الأرمن في اللواء تقلّ لأنّهم كانوا متخوّفين من مجازر تركيّة بحقهم كالتي قاموا بها بين عامي 1915 و1921».
استقرّت عائلته في حلب نحو 8 سنوات. ويتذكر من هذه المرحلة دخوله الكشّافة الأرمنيّة (نادي الانترانيك) لأربع سنوات، وأيضاً: «كان الناس يقومون بتظاهرات ضد اليهود واستيطانهم لفلسطين». تقف الذاكرة عند هذا المشهد، وتنتقل إلى لبنان حيث سكنوا في طرابلس سبع سنوات بعد أن التحقت أمه بأقاربها.

بدايات التصوير

لا يتذكر كيف انتقل إلى بيروت، لكنه يروي أن بداياته في العمل مصوّراً كانت من باب ادريس في عام 1955 «عملت في محلّ اسمه photofantasie، وكنت الكلّ بالكلّ» حسب تعبيره، فهو مَن كان يدير المحل الذي كان مدخله إلى المهنةفي ذلك الوقت كان آرا يرى أن عمله في هذا المجال مؤقت «وسيأتي يوم أترك فيه هذه المهنة، لأني كنت أريد العودة إلى المدرسة» يقولها بانفعال. لكن الظروف لم تتح له إلا الانغماس في عمله هذا، «ركزت على تعلّم المهنة بعد أن اقتنعت بأن الأمور لا تسير كما أتمنّى»، وفي موازاة انطلاقه بالعمل الفوتوغرافي، جدّد انخراطه في نادي انترانيك ـــــ بيروت، وبدأ بلعب كرة السلّة وكان مدرّباً لفريق الأشبال في النادي. عشرون عاماً قضاها آرا في ذلك المحلّ، وكان يفكر بشرائه لكن «لم أكن أملك المال الكافي». يضيف بابتسامة «الله بحبني»، ومن دون أن يترك مجالاً لطرح سؤال آخر «لو اشتريت المحلّ، لكنت خسرت كلّ شيء، خلال الحرب أقفل وسط المدينة، وبعد الحرب اشترت «سوليدير» المحلات بأرخص الأسعار».
ما لا ينساه من تلك المرحلة زيارة المخرج مصطفى العقّاد لبيروت في عام 1966 «كان يبحث عن مصوّر خاص ليصوّر فيلماً وثائقيّاً عن لبنان واخترت أنا للقيام بهذه المهمة» وهو ما خوّله أيضاً الحصول على فرصة عمل مصوّراً خاصاً في بيروت لشركة united artist، «كان هذا العمل من أفضل العروض لأن الراتب كان مغرياً، لكن اندلاع حرب 1967 بين العرب وإسرائيل أوقف عمل الشركة، وضاعت الفرصة».
في موازاة تطوّره في المهنة، لم يهمل آرا نشاطه الرياضي، وعمل مصوّراً صحافيّاً ومراسلاً لمجلّة «زارتونك» الأرمنيّة (صادرة عن نادي انترانيك) لمدّة سنتين. كذلك كان حكماً رياضيّاً مسجّلاً في الاتحاد اللبناني لكرة السلّة، وعمل لأكثر من عشر سنوات في التحكيم، لحين ابتداء الحرب الاهليّة، «كنت عادلاً بالطبع». تدرّج في إدارة نادي الانترانيك حتى أصبح عضو مجلس إدارة فيه منذ السبعينيّات حتى عام 1982، بعدها انسحب من النادي والإدارة لأسباب شخصية، لكنّه يشدّد «هذا لا يعني أن علاقتي سيئة معهم، ما زالت اتصالاتي قائمة مع الشباب إلى اليوم».

ستوديو خاص

عدم قدرته على شراء المحل الذي كان يعمل فيه في باب ادريس، لم يفقده رغبته في امتلاك ستوديو خاص به، «اخترت الحمرا مكاناًللعمل، لأنها جاذبة والسوق فيها جيّدة». لكن، لسوء حظه، افتتح الاستديو في 12 نيسان 1975، وفي اليوم التالي اندلعت الحرب الأهليّة، التي يصفها بالقول «أسوأ حرب عشتها في حياتي».لم يعد يذكر كم من مرّة تعرّض محلّه للدمار جرّاء القصف والتفجيرات «نحو 10 أو 12 مرّة أعتقد». يضحك متذكّراً إحدى الحوادث: «في إحدى المرات أصلحت المحلّ وحددت موعداً لإعادة افتتاحه، وإذا بي أتلقى اتصالاً يخبرونني فيه أنّ المحل تكسرت واجهاته الزجاجيّة جرّاء انفجار».
كلّ هذه الأحداث لم تدفع آرا إلى التوقّف عن عمله او إغلاق محله والانتقال إلى مكان آخر «فالحمرا منطقة متنوّعة»، وآخر حادث تعرّض له محله كان في آخر الحرب عام 1990 عندما تعرّض محلّه للسرقة و«هي خسارتي الكبرى، كلّ الصور التي لها علاقة بالذكريات وبيروت القديمة سرقوها، بما فيها سلّة الزبالة» يبتسم بغصّة تلاحظها في تجاعيده المرتسمة على جبينه.

صورة في العين

ليست السرقة وحدها التي تحزن آرا، بل عدم احتفاظه بنسخ خاصة به من الأفلام والصور التي التقطها خلال عمله «لو كانت بحوزتي، لكنت على الاقل سأعطي نسخة لوزارة السياحة اللبنانية، إنها ثروة لا تقدّر بثمن». فآرا لبناني، وهو لا يفكر بالعودة إلى أرمينيا «انّها بالقلب لكن لبنان أصبح بلدنا، فقد عشنا حياتنا فيه».
يفتش في ذاكرته عن صورة لا ينساها، لا تزال عالقة في عينه ومخيّلته، يراها الصورة الأجمل والأرقى بين كل ما صوّره: بيت صغير قابع على تلّة بعيدة قرب بلدة مشغرة في البقاع الغربي، صبيّة جبليّة الملامح تخبز على الصاج، وتتحرّك كل ملامحها مع يديهاكأنها «تعطي الرغيف بعضاً منها، تعطيه الحياة»، وقد احتفظ أيضاً بما تعجز عنه الصورة «رائحة أتحسّسها إلى اليوم كلما ارتسمت الصورة في مخيّلتي»، ويضيف «هذه الصورة لم تأخذني إلا إلى زاوية روحيّة داخليّة».
يكشف أنه كتب مذكّراته بالأرمنيّة، وهي لن تعلن إلا بعد موته. وقد طلب منه أحد أصدقائه ترجمتها للعربيّة «ليقرأها من يشاء عندها». وبالنسبة للغة العربيّة فهو يتحدّثها بلهجة لبنانيّة «مكسّرة»، ويرى عدم تعلّمها بسبب ظروفه «خسارة كبيرة» وهو ما دفعه لتعليم ابنه (35 سنة، متزوّج ويعمل في مجال الغرافيك ديزاين) وابنته (23 سنة، طالبة في العلوم المصرفيّة) اللغة العربية، فهما من سيقرأ ما كتب عنه في هذا التحقيق، «لم أخبرهما عن الموضوع، بل سأتركه لهما Surprise». تخونه العربيّة فيلجأ للإنكليزيّة لإشباع التعبير. ينظر إلى ساعته، إنها السابعة. يعبس، تتسارع حركته، يستأذن بابتسامة «تأخرت على عائلتي، يجب إغلاق المحل والعودة للبيت».
نصائح بلا جِمال

لأنه مصوّر محترف وخبرته طويلة في هذا المجال، لا بدّ من بعض النصائح المهنيّة، بالاتجاهين، للمصوّرين والزبائن في آن معاً.
للمصوّرين يقول «التصوير قبل كل شيء هو اكتفاء المصوّر بما يقدّمه قبل الزبون الذي يصوّر له، فالمسألة لا تتعلّق بالمال فقط». والنصيحة الثانية: لكي تكون الصورة جيدة: «أولاً العين، ثانياً العين، ثالثاً المخ». يشرح، مع حركة يدين لا تتوقف: «علينا أن ننظر من عدة زوايا لأي شيء نريد تصويره» يغمض عينيه ويردف «بعدها نجمع كلّ الصور في مخّنا، ونرى أي زاوية هي الأنسب للتصوير منها».
ينتقل بعدها بنصيحة إلى الناس «الذي يريد أن يتصوّر، من الأفضل أن يكون مرتاحاً لأنّ الزبون عندما لا يقدّم انطباعاً جيّداً، فلن أستطيع تقديم صورة جيّدة له، والعكس صحيح». ويستطرد في هذه الأفطار «الملابس الشفافة أو المظهِرة للمفاتن لدى الأنثى أكثر إثارة وجماليّة من العري الكامل» في إشارة منه إلى اللواتي يردن التصوّر عاريات.
التقنيّات جزء أساسي في مهنته، وعليه ينتقد الكاميرا الديجيتال (الرقميّة) ويرفض استخدامها أيضاً، «لانّها هي التي تتحكّم بالمصوّر وليس هو الذي يتحكّم بها» وهو ما زال يستخدم الكاميرات العادية «لأن المصوّر يتحكم بأدق التفاصيل والتقنيّات الخاصة بالكاميرا».