جان عزيز
لا يشفع الميلاد في تبديد الصورة القاتمة التي يرسمها الكثير من السياسيين المسيحيين لجماعتهم هذه الأيام.
مصدر نيابي ماروني قريب من معظم مراجع الطائفة، يذهب إلى أبعد من السوداوية في قراءته للوضع، يقول بشبه انكسار: لقد بات العالم كله يدرك أننا بلد غير قابل للحكم، لقد تحقق الإجماع الدولي على اعتبارنا دولة فاشلة (فايلد ستايت). صحيح أن لهذا المفهوم درجات ومروحة عوامل، لكن الأكيد أننا دخلنا هذه الفئة من التصنيفات الدولية، والمرجح أننا سنذهب بعيداً في مجاهلها. ويعرض المصدر نفسه أسباب ملامسته لليأس، ضمن حلقات الأزمة اللبنانية الثلاث.
فعلى المستوى الخارجي، يكشف عن معلومات مؤكدة لديه، أن الاتصالات التفاوضية انطلقت بين واشنطن من جهة، وبين دمشق وطهران من جهة أخرى. ويؤكد المصدر النيابي ذو العلاقات الدبلوماسية الواسعة والمعمقة، أن هذه الخطوط الأميركية ــ السورية ــ الإيرانية قائمة فعلاً، وفي العمق، وهي تتخطى المستويات الدبلوماسية المحلية. صحيح أن هذه الخطوط لن تؤدي إلى عودة الجيش السوري إلى لبنان، يقول المصدر نفسه، لكنها كافية للجزم مرة جديدة بأن لبنان غير موجود على قاعدة البيانات الأساسية لسياسة واشنطن الخارجية. ولأننا غير موجودين، فالنتيجة سيئة، في حالتي الاتفاق أو عدمه بين الولايات المتحدة ومناوئيها الإقليميين.
أما على مستوى الحلقة الثانية، ضمن الإطار اللبناني، فيبدو المصدر اللبناني أكثر تشاؤماً.
يقول: لم يقدم الشركاء الأساسيون في الوطن أي نموذج مطمئن للمسيحيين بعد جلاء الجيش السوري عن لبنان قبل عامين ونصف. فبمعزل عن حقائق الأمور ودقائقها، وبعيداً عن منطق الاصطفافات السياسية بين المسيحيين الموجودين مع آل الحريري والمسيحيين المتفاهمين مع الثنائية الشيعية، يظل ظاهراً للعيان، أن الوجدان المسيحي العام كوّن انطباعاً قلقاً حيال ظاهرتي السنية والشيعية السياسية. قد يكون صحيحاً أن الفروق كثيرة بين الاثنين، وقد يكون صائباً التحليل التاريخي والسياسي والسوسيولوجي، لكون الأولى تمثل منطق السلطة الشاملة والإلغائية في لبنان والمنطقة، بينما الثانية تمثل حركة رافضة مطابقة لكل حركات الأقليات التي أوجدتها دولة الخلافة. لكن في المحصلة المسيحي غير مطمئن. البعد النهائي لظاهرة «حزب الله» في ظل الصعود الإيراني لا يزال غامضاً بالنسبة إليه، مثل البعد الحاضر والمستقبلي للحريرية السياسية، بوصفها فرعاً من فروع المالية السياسية، التي بدورها تمثّل فخذاً من أفخاذ السنية السياسية، يقلقه ويقضّ مضجعه. لم تكف ربطة عنق الحريري لتبديد المخاوف. حتى القواعد المسيحية المنضوية ضمن فريقه تهمس خوفها من ابتلاعه الوطن وبيروت والساحات والجغرافيا والديموغرافيا. ولم يكن ينقصه غير «فتح الإسلام» ليصير الذعر المسيحي موسوماً بالدم والعنف. يقول المصدر النيابي نفسه: مسألة نهر البارد أكبر بكثير مما قيل وسيقال، إنها قضية من الأخطر والأشد سرية وألغازاً ومؤامرات. تصوروا أن ثمة تحفظاً سعودياً أكيداً حيال ترشيح قائد الجيش للرئاسة، على خلفية ما حصل في البارد، وعلى خلفية الموقوفين والتحقيقات والمعلومات المكتومة أو الممكن الوصول إليها.
ويتابع المصدر نفسه، طبعاً في الظاهر كل هذه الوقائع عرضة للنفي والقلب والعكس، غير أن المعنيين يدركون صحتها ودقتها.
تبقى الحلقة الثالثة في متاهة الإحباط، إنها الحلقة المسيحية. هنا يصير الكلام أقرب إلى جَلد الذات. كيف نجحت الجماعات السنّية والشيعية والدرزية في اقتناص فرصة الجلاء السوري لاستعادة الدور الكامل وأكثر، فيما المسيحيون وحدهم عجزوا عن ذلك؟ الضغوط الخارجية هي السبب؟ خطأ هذا الكلام، ها هو نبيه بري مثال أكيد على عدم صحة التبريرات المسيحية. بعد انتخابات 2005 كان الفيتو الأميركي والفرنسي على سيد ساحة النجمة أكبر بكثير مما هو على ميشال عون، لكن وحدة طائفته كانت أقوى من كل الفيتوات. أقفل الشيعة ساحتهم على رئيس حركة «أمل»، فانصاع الجميع، حتى صارت باريس وواشنطن محاورتين له، لماذا لم يفعل المسيحيون ذلك؟ ماذا لو قالت بكركي القول نفسه؟ أما كان الحل المسيحي والوطني نفذ وانتهينا؟ وما يتحفظ المصدر النيابي على تفصيله، يكشفه زملاء له مماثلون في الاطلاع والاتصال. يروي أحدهم أن مصدراً دبلوماسياً روحياً ناشطاً على خط المساعي الراهنة، بات يتحدث علناً عن يأسه في التعاطي مع الكنيسة المارونية: لا أفهم منهم شيئاً، يقول، زياراتي إلى الصرح باتت بروتوكولية لا أكثر، حتى أنني أوصيت مراراً مرجعيتي بضرورة التغيير، لا بل اقترحت صيغاً عملية لذلك، لا يمكن الاستمرار على هذه الحال.
ويسكت المعنيون عن الأكثر الكثير من الحساس من الكلام. ليست كل حقيقة صالحة للقول، يرددون، لكنهم يتذكرون الراحل الكبير الأب ميشال حايك في مسلّمته النبوية، كان يرد: قضية كبيرة حملها رجال صغار، فأوقعوها وأوقعتهم...