strong>محمّد مصطفى علّوش
•مئات تحملهم الحمية على تنفيذ عمليات لا تخطر ببال

تلفت الزائر لمدينة طرابلس للمرة الأولى المحافظة الدينية التي يتسم بها أهل المدينة، التي يصفها أبناؤها بأنها «قلعة الإسلام والمسلمين»، ولا سيّما أنّها من أغزر المدن العربية احتضاناً للتراثين المملوكي والعثماني إبّان الخلافة الإسلامية

ما يلفت الزائر في طرابلس اليوم أكثر ممّا عداه هو الانتشار الواسع للفكر السلفي، أو الوهّابي، كما يصفه خصومه، ناسبين إيّاه إلى فكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ويغزو الفكر السلفي بكل مذاهبه وألوانه شرائح واسعة من المجتمع ويتزايد بشكل أساسي في صفوف الشباب. ويتكاثر معه الفكر التكفيري ويتّسع بهدوء حتى يطال الشاب الجامعي كما يطال البقّال في دكانه.
ورغم اعتبار مؤسس التيار السلفي في لبنان الشيخ داعي الإسلام الشهال أن تقسيم الفكر السلفي إلى جهادي وجامي وعلمي هو من صنع أجهزة المخابرات، فإنّه يؤكد أن «السلفية الجهادية» هي بنت الفكر السلفي على قلة حكمة لديها في استعمال «عبادة الجهاد». وبخلاف ذلك، يذهب مدير معهد الدعوة والإرشاد الشيخ حسن الشهال إلى اعتبار أن «السلفية الجهادية» لا تنتسب إلى السلفية لا ولادةً ولا فكراً، حيث يحصر السلفية في «السلفية العلمية» دون غيرها.
ويشرح مصدر إسلامي ولادة الفكر التكفيري بالحديث عن تأثّر «الفكر السلفي في لبنان بالجو العام للفكر السلفي في الخليج والعالم الإسلامي، الذي شهد انقسامات وتحوّلات عديدة بعد احتكاكه بفكر سيّد قطب ثم فكر تنظيمَي الجهاد والجماعة الإسلامية المصريين، لكن ولادة تنظيم القاعدة، المركّب فكره من المذهب السلفي والفكر الجهادي المصري، مع بداية التسعينات في أفغانستان، كان لها الدور الكبير في انتشار الفكر التكفيري في العالم العربي، إن لم يكن بكليّته فببعض مسلّماته كالقول بتكفير الدولة وحرمة العمل معها وتصوير الديموقراطية كنظام بديل للشريعة وهو الطاغوت المعبود من دون الله».
ويتابع المصدر: «لبنان بلد منفتح على كل شيء، ولكل فكر فيه حصة، وقد وجد فكر القاعدة وغيره من المذاهب المتشددة أرضاً خصبة له، وذلك لأسباب عديدة مركّبة منها ضعف الرقابة، وانعدام الثقة بالعلماء، وحماسة الشباب وغيرته الدينية مع الجهل الشرعي، وتوافر البيئة المحبطة، والمهمّشة، فضلاً عن الغضب الذي ينتاب هذا الشاب حين يرى ما يجري لأمّته في العراق وغزة». ويضيف داعي الإسلام الشهال سبباً آخر يتمثل في قلة عناية الدولة بمن يقعون فريسة هذا الفكر، والتعامل معهم وفق رؤية أمنية بحتة.
ويخضع معظم هؤلاء الشباب لـ«عملية غسيل دماغ»، حسب ما يقول صديق لأحدهم في الجامعة اللبنانية، وهو يتذكر أول لقاء جمعه به: «تعرّفت عليه وكان يضع «بلاك» في يده وسلسلة ذهبية في عنقه ويطيل شعره، وما هي إلا بضعة شهور حتى تغير كل شيء فيه، وأصبح متديّناً، ثم ما لبث أن أصبح أكثر تشدّداً، إذ تأثر ببعض التلاميذ من حملة الفكر السلفي داخل الجامعة».
ويتحسّر الجامعي على صديقه الموقوف منذ السنة الماضية بتهمة الانتماء إلى تنظيم أصولي مسلّح قائلاً: «كان طموحاً ومحبوباً من الأساتذة والتلاميذ، وقد خدم زملاءه من خلال مجلس الطلبة الذي فاز فيه أكثر من مرة».
ثم يستدرك: «في السنة الجامعية الثانية تعرّف على مجموعة من الخليجيين، حَسِبَهم علماء دين، وقد حاولوا إقناعه ــــــ حسب ما أخبرني لاحقاً ـــــــ بأن الاختلاط في الدراسة حرام، وأنه لا ثقة بما نتلقّاه من علوم الغرب من مناهج لأنهم كفرة، وعانى ضغوطاً نفسياً كثيرة وعاش صراعاً داخلياً حتى استقر به الأمر ميّالاً لدعوتهم بأن أصبح يرى أن الحب بين الجنسين من عمل الشيطان، وأن لا حب في الإسلام، ثم ما لبث أن ترك الجامعة بعدما رسب فيها لينتقل إلى جامعة خاصة، الى أن قبض عليه بهذه التهمة».
ويتحدث آخر عن زميله الذي أضاع سنة من عمره في السجن قبل أن يُفرج عنه: «كان ذكياً جداً في الجامعة وصاحب علم شرعي مقبول، إلّا أنه تغيّر فيما بعد فأصبح يكفّر الدولة ويرى حرمة العمل معها لأنه مساعدة للطاغوت كما يرى أن أموالها حرام، ثم راح يتغيب عن الجامعة بحجة حفظ القرآن الكريم، وبعدها ترك الجامعة بعد ما فشلتُ في ثنيه عن التشدّد، منذ ذلك اليوم لم أسمع عنه شيئاً سوى أنه انتقل الى جامعة خاصة، حتى كان اليوم المشؤوم الذي علمت فيه أنه قُبض عليه مشتبهاً به في بعض المشاكل الأمنية».
هذه الحالات ليست نادرة، والفكر القائم على تكفير الدولة والعمل بالديموقراطية موجود بقوة في المجتمع بكل شرائحه، وتحديداً بين الشباب. وما يزيد هذا الفكر توسّعاً وانتشاراً هو التعارف الذي يحصل بين المتعاطفين مع فكر القاعدة أو التنظيمات الجهادية المسلحة في العراق والشيشان والصومال، في المساجد وفي المنتديات الإلكترونية، فضلاً عن تيسّر شراء ونسخ الأقراص المدمجة التي تحوي خطباً وكتباً إلكترونية ونشرات للتنظيمات الجهادية المسلحة، وكذلك سهولة تداولها وتبادلها بين الراغبين والفضوليين. أضف إلى ذلك الجو العام المسيطر على أذهان المسلمين من أنهم أمة مستهدفة.
وعمّا إذا كان حاملو الفكر التكفيري كُثراً في لبنان، وبإمكانهم القيام بأي عمل مخلّ أمنياً، يقول الشيخ (م. أ) المطّلع على أحوال الكثيرين منهم: «ليسوا بالعشرات. إنّهم بالمئات وربما أكثر، وهم موجودون في أي منطقة تذهب إليها، ومستعدون لفعل الكثير، وقد يفعلون ما عجز عنه (ي. د)، المتهم بتفجير القطارات في ألمانيا، إذا توافرت لهم الظروف التي توافرت له. هؤلاء لا يتصرفون بدوافع إجرامية. إنهم مؤمنون بقضية وهم مصمّمون على تحقيقها». ورغم أن الشيخ المذكور يعزو الحالة إلى النقص في العمل الشرعي، والطيبة، والاندفاع، والغيرة على المسلمين، إلا أنه يرى أنه لا يمكن الحد من وجودهم أو القضاء على فكرهم حتى يُقلع الغرب عن غزوته على المسلمين أو ظهور قيادة إسلامية واعية تتكفل الدفاع عن الإسلام والذود عنه بدلاً من هؤلاء.



أسس السلفية

ينتسب الفكر السلفي إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب المولود في نجد في السعودية، وهو حارب الخرافات والبدع ودعا إلى تطهير الإسلام مما علق به من رواسب التخلف، والعودة به إلى منابعه الأصلية. ويتنوع الفكر السلفي بين عدد من المدارس من «سلفية علمية» إلى «سلفية قطبية» الى «سلفية جامية» وانتهاءً بـ«السلفية الجهادية».
وصل هذا الفكر إلى لبنان مع الشيخ محمد رشيد رضا، ثم نما وتميّز عن غيره بفضل الشيخ سالم الشهال في بدايات القرن الماضي. وكان مقتصراً في البداية على تصحيح العقيدة والسلوك، ثم اتخذ طابعاً مسلحاً مؤطّراً داخل تنظيم «جيش النواة الإسلامي» في طرابلس، ثم نما مع نمو الأفكار الحزبية إبّان الاجتياح الإسرائيلي وبدأ بالتكاثر منذ عام 1985.