ليلى أبي سابا*
انكبّ الجميع، في سبعينيات القرن الماضي، خلال نشأتي في أسرة ناشطة في أميركا الوسطى، على قراءة كتاب فرانس مور لاب الرائد «غذاء لكوكب صغير». ارتكز هذا الكتاب على مبدأ أساسي ينص على أن أكل اللحوم يجوّع الفقراء ويؤذي النظام البيئي في العالم.
كجميع أبناء جيلي من «الهيبّيين»، كنت أعي أن إنتاج أوقية من البروتين الحيواني يتطلّب ضعف المساحة من الأراضي والأسمدة والمياه ممّا يتطلّبه إنتاج أوقية من البروتين النباتي كالحبوب. في ذلك الوقت، كان اختيار نظام غذائي يكثر فيه الطعام النباتي ويقل فيه ذلك الحيواني يعني بالنسبة إلي حماية صحتي وصحة الحقول وقنوات المياه والغابات والمحيطات.
خلال عقود متتالية، كشف الباحثون معلومات أكثرعن النتائج المؤذية للغذاء الغني باللحوم: مشاكل صحية للأفراد الذين يتّبعونه، مشاكل بيئية للكوكب، ومشاكل اجتماعية ناتجة من سوء توزيع الغذاء في العالم.
الآن، مع حلول الألفية الجديدة، أستقبل بفزع شديد واقع أن مطاعم الوجبات السريعة تزدهر في العالم العربي رغم ما تقدّمه من لحم أحمر أو أبيض من إنتاج صناعي. فالنظام الغذائي اللبناني الذي اعتدته في طفولتي خلال زياراتي العائلية إلى لبنان، كان يرتكز على النبات والحبوب والخضروات ومنتجات الحليب مع الأسماك والدجاج أحياناً. أمّا اللحوم، فقد كان تناولها استثنائياً نوعاً ما، يرتبط بأيام الأعيادهل تدرك الأمهات اليوم، حين يصطحبن أطفالهن لتناول الطعام في أحد مطاعم الوجبات السريعة، المخاطر الصحية التي يتعرض لها أطفالهن من جراء تناول الهامبرغر والبطاطا المقلية؟ هل يعينَ الضّرر الذي يتسبب به هذا النوع من الوجبات المرتكز على الإنتاج الصناعي، للأنهر التي تروي ظمأ أطفالهن؟ هل يعلمن كيف يؤدي الإنتاج المكثف للبروتين الحيواني إلى تدمير الغابات الاستوائية في أميركا الجنوبية؟
كلّما انكبّ سكان البلدان النامية على التّمثل بأسلوب الحياة الأميركي، تعاظم الطلب على اللحوم، وأدّى ذلك بالتالي إلى ارتفاع أسعار الغذاء. وبالتالي، يعاني الفقراء هذا الارتفاع. فحين تستخدم الحبوب لتغذية الحيوانات أو لإنتاج المحروقات العضوية، تقلّ النسبة المطروحة منها في الأسواق لتغذية البشر. خلال العام الماضي، تظاهر سكان مدينة مكسيكو في الشوارع مطالبين بإعادة أسعار التورتيلا إلى مستواها السابق، إذ إنها كانت قد ارتفعت حين جرى تحويل النسبة الأكبر من منتج الذرة إلى قطاع تصنيع الإيثانول الأميركي. من المتوقع أن تزداد هذه المعاناة كلما زاد الطلب العالمي على اللحم وعلى المحروقات العضوية.
تؤرق اليوم المشاكل الصحية التي توصلت البلدان الغنية إلى احتوائها البلدان النامية: أمراض القلب، السرطانات، أمراض السكري والبدانة،
فتصنيع اللحوم ومعالجتها يخلقان مخاطره الخاصة، بينها الإصابات الجرثومية ومنها الـ«إي كولي» وسُلالات جديدة من السالمونيلا التي تصيب بالمرض وقد تقتل أحياناً. يعي أغنياء المستهلكين من الأميركيين هذه القضايا، فيتّجهون إلى شراء اللحوم الخالية من المضادات الحيوية والهورمونات. فأبنائي يدركون أن عليهم عدم تناول الهامبرغر إلا إذا كان مصنوعاً من لحم تنتجه مزارع محلية تعتمد الزراعة الطبيعية المستدامة. فالمطاعم الراقية من نيويورك حتى كاليفورنيا تتسابق فيما بينها لتقديم لوائح طعام تزخر بالطيبات المحلية العضوية المصنوعة بأسلوب مستدام،
وبعض أصدقائي المتعالين يجعلون من «مبدأ تناول طعام صحي وعضوي» رياضة تنافسية. وأبناؤهم الذين يرتادون مدارس النخبة الخاصة في مدينتي الغنية يحملون معهم إلى المدرسة علب الطعام التي تحوي غذاءً مليئاً بالطيبات العضوية والنقانق الخالية من النتريت بينما يتغذى تلاميذ المدارس الرسمية بطعام مليء بالمواد الحافظة والأدوية والمبيدات (التي تدعم حكومة الولايات المتحدة تصنيعها بقوة).
ورغم أن الطبقة العليا من المستهلكين الميسورين في أميركا تختار أفضل أنواع المأكولات العضوية غير المضرّة بالبيئة، وأن المستهلكين الناشطين يصرّون على تهميش وتفادي الإنتاج الغذائي الذي تؤمّنه الشركات العالمية الكبرى من خلال اختيارها للغذاء المحلي الذي لا يضغط على نظام السلسلة الغذائية، فإن العالم يتلقى على ما يبدو الرسالة الخاطئة. فمواطنو الهند والصين والشرق الأوسط يطالبون اليوم بمأكولات الوجبات السريعة التي ينبذها المستهلك الأميركي الواعي، وبذلك، يزيدون الضغط على الفقراء والنظام البيئي والصحة العامة.
* ناشطة وكاتبة في القضايا
الغذائية مقيمة في كاليفورنيا