نقولا ناصيف
الجلسة الـ11 لانتخاب الرئيس الجديد للجمهورية، كسواها من الجلسات السابقة، لن تكون لها خاتمة خارج أحد خيارين: تبدُّل خارجي في توازن القوى لمصلحة أحد فريقي النزاع، أو ذهابهما معاً إلى تسوية يسلّمان بها تحت وطأة ضغوط خارجية. ممّا يشير حكماً إلى عجز كلّ من فريقي الموالاة والمعارضة عن اجتراح حل داخلي يتوافقان عليه، وكذلك عن فرض أحدهما خياره للحل على الآخر.
على أن هذا العجز أضحى مرتبطاً ببضعة معطيات، قد يكون أبرزها استمرار إمساك رئيس المجلس نبيه بري بزمام البرلمان في تحديد وجهة انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية.
وبعدما كان قد استدرج قوى 14 آذار أولاً، في الصيف الفائت، إلى شرط التوافق على إجراء الاستحقاق الرئاسي ومن خلاله على الرئيس الجديد، ثم استدرجها ثانية في المهلة الدستورية، في الخريف الفائت، إلى أن لا انتخاب لرئيس الجمهورية خارج نصاب ثلثي النواب، ها هو يستدرجها للمرة الثالثة في آخر السنة إلى حيث يريد، أي وضعه الاستحقاق الرئاسي تحت مظلة المادة 74 من الدستور التي يرى بري أنها تمثل مخرجاً ملائماً للجميع، واختصاراً للأصول والمهل عبر انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية دون المرور بتعديل دستوري، ودون الحاجة إلى معبر حكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي تصفها المعارضة بأنها غير دستورية وغير ميثاقية، ودون حاجة هذه إلى استخدام صلاحيات رئيس الجمهورية في ظل شغور المنصب لاقتراح التعديل الذي ينطوي بدوره على مغازٍ سياسية مثيرة للجدل، ودون الخوض في صيغة حكومية للتعديل، ولا الحاجة خصوصاً إلى عقد استثنائي يلتئم فيه البرلمان لانتخاب الرئيس الجديد بعد تعديل الدستور. بذلك حدّد رئيس المجلس الضوابط الجديدة لانتخابات الرئاسة كالآتي:
ــــــ إخراجها من تحت مظلة المادة 73 التي تحدّد مهلة شهرين حداً أقصى وشهراً حداً أدنى لانتخاب الرئيس الجديد للجمهورية. ويعني ذلك انقضاء المهلة الدستورية تماماً، غير القابلة للتمديد.
ــــــ أخذه بالاجتهاد الذي قدّمه الدكتور إدمون رباط لسلفه الرئيس حسين الحسيني في 14 كانون الأول 1987 عندما رأى أن خلوّ منصب الرئاسة بسبب عدم انتخاب رئيس جديد للجمهورية يقع، بعد انقضاء المهلة الدستورية، تحت أحكام المادة 74، واعتبار هذا الشغور من ضمن «أو سبب آخر». تبنّى بري هذا المخرج الذي كان قد اقترحه عليه النائب بهيج طبارة في 14 كانون الأول، وحاز تأييد رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري ورئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط، قبل أن ينفجر رئيس الحكومة فؤاد السنيورة في وجه الاقتراح يوم الاثنين 17 كانون الثاني ويتوجه إلى جنبلاط في الساعات التالية، لائماً ومعارضاً، بالقول: «دعونا نستسلم، هذا أفضل». كان ثمن موافقة الحريري وجنبلاط على المادة 74 تخلي المعارضة عن المطالبة بالثلث المعطل في أولى حكومات العهد الجديد.
في الاستشارة التي قدمها رباط إلى الحسيني رأى أن «عدم انتخاب خلف لرئيس الجمهورية» يقع تحت أحكام المادة 74 بعد انقضاء المهلة الدستورية. وكان قد طرق هذا الموضوع للمرة الأولى في كتابه بالفرنسية عن «الدستور اللبناني» الصادر عام 1982 (الصفحة 480).
ـــ تضييق الخيارات الدستورية بغية قفل أبواب الاجتهادات في المواد الأكثر ملاءمة لهذا الفريق أو ذاك في توجيه الانتخابات الرئاسية، وحصر الآلية الدستورية المناسبة للانتخاب بالمادة 74، على أن هذه ليست حلاً سياسياً لمشكلة سياسية متفاقمة، بل مخرج دستوري لحل سياسي يراد منه تفكيك مشكلة سياسية.
ولأن المشكلة سياسية، لا دستورية، فإن توافق فريقي الموالاة والمعارضة على انتخاب سليمان رئيساً لن يقودهما إلى هذا الاستحقاق بلا تنازلات متبادلة. ذلك أن التوافق المفاجئ على قائد الجيش، والظروف التي سبقته أو رافقته، طبعه الغموض بالنسبة إلى كليهما معاً. إذ بعدما كانت قد رشحته للمنصب وقابلتها الموالاة برفض متصلب، قرنت المعارضة في الأسابيع الأخيرة الذهاب إلى مجلس النواب لانتخابه بحصولها على الثلث المعطّل في مجلس الوزراء. الأمر الذي عنى تأييده مشروطاً. كذلك حال قوى 14 آذار التي رفضت في الأشهر المنصرمة وصول سليمان إلى رئاسة الجمهورية لأسباب عزاها معظم أركانها إلى ما يتعدّى أحياناً الموقف المبدئي من تعديل الدستور، وهو استمرار اتصالات قائد الجيش بدمشق، قبل أن تفاجئ الموالاة الطرف الآخر بتأييد غير مشروط. كان قد اختاره ثلاثة في اجتماع مغلق قبل 48 ساعة من نهاية ولاية الرئيس إميل لحود، هم السنيورة وجنبلاط والحريري دون سائر حلفائهم، في 21 تشرين الثاني الفائت. تولّى الحريري إقناع رئيس الهيئة التنفيذية للقوات اللبنانية سمير جعجع، ونقل النبأ إلى البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير، فرحب، قبل الكشف عن هذا الخيار في 28 تشرين الثاني. فإذا به يثير ريبة دمشق والمعارضة في آن واحد. وإذ بدا خيار انتخاب سليمان صائباً، بعث الأسلوب الحار والحماسي في إعلانه على الريبة والتوجّس، وكأن ثمة لغزاً بين الموالاة وقائد الجيش.
وبعدما كان سليمان المرشح الأكثر اطمئناناً لسوريا في شكل حمل باريس على توقّع قيام الأولى بالضغط على حلفائها اللبنانيين للمضي في انتخابه فوراً، اكتشف الفرنسيون أن نظراءهم اكتفوا بهزّ الرأي إيجاباً عند تسميته مرشحاً توافقياً، عندما حمل الاسم إلى دمشق ــــــ مع أسماء أخرى ــــــ الأمين العام للرئاسة الفرنسية كلود غيان، في 20 تشرين الثاني، ومقابلته الرئيس بشار الأسد، وذلك قبل 24 ساعة من تبنّي الموالاة إياه.
حينذاك تبادل الفرنسيون والسوريون سوء تفاهم حيال ردّ فعل كل منهما على اقتراح اسم قائد الجيش للرئاسة. ظنّ الفرنسيون أن موافقة دمشق ستُفضي إلى إجراء حتمي وسريع لانتخابه والضغط على المعارضة اللبنانية لثنيها عن التردد. وظنّ السوريون أن الفرنسيين اكتفوا بموافقتها على عدم الاعتراض على مرشح تجد أنه الأكثر ملاءمة لتصويب العلاقات اللبنانية ـــــ السورية مستقبلاً لكونه لا ينتمي إلى قوى 14 آذار، ولا يُنظر إليه كحليف للمعارضة، وسلك في علاقته بالطرفين في أسوأ مراحل الاحتقان السياسي بينهما باتّزان ورصانة ومسؤولية. أمّا الضغط على المعارضة لتذليل شروطها أو تفكيك تحالفاتها وحمل حزب الله على التخلي عن العماد ميشال عون، فحساباته في دمشق مختلفة.