جان عزيز
إشكال ترقية ضباط الجيش، بين السرايا واليرزة، يبدو تعبيراً مكثّفاً لكل تاريخ الدولة اللبنانية، وللبنان ما بعد الطائف، وخصوصاً للآتي من الأيام والسلطة. ذلك أن ثمّة غنى هائلاً في الموضوع، ودلالة على الكثير الكثير.
فمن جهة أولى، يستحضر الإشكال المذكور تاريخية مؤسسة الجيش في صلب الكيان اللبناني ونظامه والميثاق. ومن جهة أخرى يستذكر جدلية نظرة السرايا إلى ذلك الكيان وسلطته. ومن جهة ثالثة يستعيد تأريخ العلاقة بين «الوزارة» في اليرزة و«الوزارة» في السرايا.
فمنذ الجمهورية الميثاقية والاستقلالية سنة 43، يقع الجيش في مكان ملتبس غصباً عنه، لجهة نظرة مواطنيه إليه. طيلة ثلاثة عقود على الأقل، ظلّ المسيحيون ينظرون إليه على أنه «جيشهم الإمبراطوري»، الذي يحكمون بواسطته ومن مركز «متروبولهم»، «الجاليات» الأخرى في لبنانهم الكبير. وهو ما تزامن مع نظرة معاكسة من المسلمين إلى الجيش، على أنه حامي النظام الأقلّوي الظالم، بقوة التهديد بالقوة، وإن من دون استخدامها. وقد تكون أحداث ما بين عامي 69 و75، دليلاً ساطعاً على تبلور هذين الإحساسين المتناقضين داخل الوطن الواحد. وبلغت هذه البلورة ذروتها يوم تظاهر المسيحيون تأييداً للجيش، ويوم تحدثت قمة عرمون عن تكريس الفدائيين الفلسطينيين جيش المسلمين في لبنان.
وإزاء هذه الصورة التناقضية، كانت إشكالية أخرى أكثر ظهوراً وبروزاً إعلامياً وسياسياً، وهي تلك القائمة بين اليرزة وبعبدا، مع حلم العبور بين الموقعين. لكن الإشكالية الأكثر بنيوية ظلّت على خفائها وكمونها وكتمانها بين السرايا والدفاع، منذ ما قبل مطالبة صائب سلام بإقالة العماد إسكندر غانم سنة 73، إلى ما بعد المطالبة بتنحّي العماد إبراهيم طنّوس سنة 84، وصولاً إلى كل لحظة في حياة هذا النظام المعقّد.
المهم أنه مع الجمهورية الثانية، بعد اتفاق الطائف، تبدّلت بعض المعطيات، إلا أن الجدلية الأساسية ظلّت قائمة. فمطلع التسعينيات، وتحديداً بعد خريف عام 92، وصل رفيق الحريري إلى سلطة «السرايا»، ثالث زعيم تاريخي لسنّة لبنان، واللبناني الأول بينهم، بعد عبد الناصر وأبو عمار. وشاءت المصادفة أو التخطيط المسبق، أن يصل هذا الزعيم في ظل جمهوريةٍ، قفز السنّة إلى موقع أرجحيتها الدستورية والواقعية. وهو ما أطلق مرحلة تكريس سيد السرايا «أسطورة» في السياسة اللبنانية، بالمعنى «الميتوماني» للكلمة. وفي المقابل، كان المسيحيون في مسار معاكس، يتجه اندحاراً وانحداراً، في ظل التصحير السوري والإحباط الذاتي. وقيل يومها إن ثمّة من لفت نظر دمشق إلى إمكان العزف على وتر البزّة العسكرية ولقب «العماد» مسيحياً مارونياً، وذلك لامتصاص الأزمة المسيحية من جهة، وموازنة الثقل الحريري من جهة ثانية، ولتكريس نظام التناقضات الداخلية الذي يريح دمشق في وصايتها ويعطيها مشروعية دولية أكبر. هكذا، ومنذ عام 95، نهاية الولاية الأساسية لإلياس الهراوي، أعيد إحياء نظرية «الأسطورة» المسيحية الملازمة لقائد الجيش، وظلّ العمل جارياً على نفخها ونسجها حتى استحقاق الـ98 وما بعده.
ولمزيد من التدقيق التاريخي البالغ الدلالة حيال الحقبة الراهنة، تجدر الإشارة إلى أن هذا المسار النزاعي للأسطورتين لم يلبث أن عرف صدامات عدة، مرة مع وزير المالية فؤاد السنيورة، ومرة أخرى على خلفية انتخابات الاتحاد العمالي العام. لكن الصدام الأهمّ كان قبل عقد كامل بالتمام. في كانون الأول 97، يوم رفض رفيق الحريري توقيع مرسوم ترقية عقداء، بينهم جميل السيد. تطور الموضوع ووصل إلى مجلس شورى الدولة، وانتهى في دمشق طبعاً، على قاعدة لا غالب ولا مغلوب تحت السقف السوري. لكن المغزى في ذلك الصدام أنه كان أول إشارة إلى بداية الصراع السنّي ـــــ الشيعي في لبنان الطائف، أي لبنان ما بعد الانكفاء المسيحي إلى دور الكومبارس.
بعد عقد كامل بالتمام، تعود الصورة قريبة مشابهة، لتثير الكثير من العبر والأمثولات. قد يسارع البعض إلى التأكيد أن المقارنة ساقطة، ذلك أن كل ما سبق كان محكوماً بوجود العامل السوري. لكن الأرجح أن تكون العوامل البنيوية المكوّنة للجدلية لا تزال هي نفسها، لا بل قد تضاعفت وتفاقمت. فأسطورة السرايا لم يكن ينقصها غير اغتيال الحريري لتتخطى الذروة حتى التأليه. وأسطورة اليرزة تجد دوماً من ينسجها عبر شعارات التزلّف والشخصنة والملصقات الضخمة. هذا إذا لم نضف إلى هذه الجدلية الطبيعتين المتناقضتين للأسطورتين، بين المال والعسكر، بين «المقاول» و«المقاوم»، وبين «رجل الأعمال» و«رجل الآمال»، حسب لغة البروباغاندا الخاصة بكل طرف.
السرايا واليرزة والحكم في لبنان... كأنها تراجيديا إغريقية بمعشوق واحد وعاشقين متقابلين ومأساة تتكرّر مع إشراقة كل هلال أو نجمة.