نقولا ناصيف
أدخلت السجالات المتبادلة بين رئاستي مجلس النواب ومجلس الوزراء التجاذب الداخلي في مرحلة الاتهامات المتبادلة بخرق الدستور وتقويض المؤسسات وجعل الدستور تالياً ساحة مواجهة تطوي بعض آمال التسوية وانتخاب رئيس جديد. وإذ لا ينفصل الجدل الدستوري المفاجئ، بمثل هذه الحدة بين الرئيسين نبيه بري وفؤاد السنيورة، عن ارتفاع وتيرة التصعيد الآخر على خط الخلاف السعودي ـــــ السوري، بما في ذلك الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب في القاهرة، يبدو استخدام عدّة الشغل اللبنانية لهذا الخلاف باباً إلى مزيد من تدهور الوضع الداخلي. ذلك أن ما أعلنه رئيس المجلس نبيه بري مساء الجمعة عن تأجيل جلسة انتخاب الرئيس إلى 12 كانون الثاني ليس مفاجئاً، وغير مستقل عن تشاور مسبق مع أركان قوى 14 آذار، وكذلك وضعه انتخابات الرئاسة تحت أحكام المادة 74 ليس مفاجئاً للموالاة التي كانت مستعدة للمضي بهذا المخرج في الجلسة التي كانت مقررة في 17 كانون الأول. أما المفاجئ، فلهجة تصعيد مفتعلة بدت أكثر تأثراً بالتشنج السعودي ـــــ السوري منها باللعبة الصغيرة الدائرة في لبنان، وهي الاتفاق على موعد آخر لانتخاب رئيس، لن ينتخب ما لم يذلل الخلاف الناشب بين الرياض ودمشق.
ولا تعدو الاتهامات الجديدة المتبادلة كونها تمسُّكاً لكل من رئاستي السلطة الاشتراعية والتنفيذية بصلاحياتهما والمضي في استخدام إحداهما إياها ضد الأخرى. والواضح من الرد الذي أصدره السنيورة على بيان بري بتأجيل جلسة الانتخاب أنه لا يكتفي برفض الحيثية التي استند إليها بري لوضع الاستحقاق تحت أحكام المادة 74، بل يتوخى أيضاً الدفاع عن المشروع الحكومي لتعديل الدستور الذي رفض رئيس المجلس تسلّمه لصدوره عن حكومة غير شرعية.
وهكذا أوصد بري والسنيورة الأبواب الواحد في وجه الآخر، متبادلين منع إدارة الاستحقاق الرئاسي. وهو ما تعبّر عنه الملاحظات الآتية:
1 ـ موافقة أركان الغالبية، ولا سيما رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط ورئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري، على الأخذ بالمادة 74، اصطدمت برفض السنيورة لها كونها تجرّده من دور رئيسي له في الاستحقاق. وإذ بدا تعويل بري على هذه المادة لاختصار الوقت في انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً بلا تعديل مسبق ـــــ وقد أيّد جنبلاط والحريري هذا المخرج ـــــ فإن رفض السنيورة يتركز على الجانب الآخر منه الذي يُشعر حكومته بالتجاهل والإهمال، وأنها خارج التسوية، أضف تثبيت الطعن بشرعيتها. إذ ما يبحث عنه، وإن تصلّب حيال حلفائه، هو الخروج المشرّف من الحكم عندما يحين أوان تركه، لئلا تصنع منه التسوية ضحية ضعيفة. فيغادر على طريقة الرئيس إميل لحود.
2 ـ فيما يصر السنيورة على حق حكومته باستخدام كل صلاحيات رئيس الجمهورية، وكالة، إلى حين انتخاب خلف له، واقع الأمر أن صلاحية تعديل الدستور المنصوص عليها في المادة 76، في رأي الرئيس حسين الحسيني، ليست من الصلاحيات التي يمكن تفويضها نظراً إلى ارتباطها باختصاصات إضافية لرئيس الجمهورية في آلية تعديل الدستور، وهي إمكان حلّه مجلس النواب في حال تعذّر الاتفاق على مشروع التعديل بين الرئيس ومجلس النواب. وهو ما ليس في وسع حكومة السنيورة الإقدام عليه حالياً. وفي أبسط الأحوال تدرك أن ثمة سبباً دستورياً كافياً لحل المجلس هو عدم اجتماعه في عقدين متتاليين، على أنها تدرك عدم قدرتها على ممارسة هذه الصلاحية المنوطة برئيس الجمهورية لأسباب سياسية، كما لأسباب دستورية هي أن ليس في وسعها حلّ المؤسسة المعنية مباشرة بانتخاب رئيس جديد للجمهورية. ناهيك بأن المادة 76 تعطي رئيس الجمهورية وحده حق اقتراح تعديل الدستور، وليس للحكومة إلا أن تتقدّم بمشروع القانون إلى البرلمان. ولا تملك في هذه الحال حق المبادرة.
3 ـ ما دام يفترض أن من المتعذّر على مجلس الوزراء، في ظل شغور رئاسة الجمهورية، تعديل الدستور عملاً بالمادة 76، فإن المبادرة الفعلية هي في يد البرلمان الذي يقترح التعديل وفق عريضة تمنٍّ بذلك، ليس للحكومة أن تتخذ منها موقف الممانعة وتعطيلها نظراً إلى أن رئيس الجمهورية هو الذي يضطلع بالدور المقابل لمجلس النواب إذا أصرّ الأخير على مشروع التعديل بغالبية ثلاثة أرباع أعضائه، وعندئذٍ يكون على رئيس الجمهورية استجابة إصرار المجلس أو دعوة الحكومة إلى حلّه. وتالياً، في حال الشغور، ليس لحكومة السنيورة الاضطلاع في آن واحد بدور صاحب الصلاحية والوسيط حيال مجلس النواب صاحب إرادة تعديل الدستور استناداً إلى المادة 77.
وهذا ما يراه الحسيني بقوله إن الاستحقاق مسؤولية المجلس لا الحكومة، وهو المعني بإزالة العراقيل من طريق انتخاب الرئيس، لا الحكومة غير المعنية أساساً بالاستحقاق، لا من قريب ولا من بعيد.
4 ـ مع أن بري رفض عريضة الغالبية بتعديل الدستور، فالواضح أن هذه استوفت شرط العقد العادي. أي أن تسجيلها في دوائر المجلس تمّ قبل انقضاء العقد العادي، مما لا يجعلها أسيرة انتظار العقد العادي التالي في آذار، وهي بذلك قد تكون أسقطت المهلة، ولكن دون إقرار العريضة التئام ثلثي مجلس النواب للموافقة عليها قبل إحالتها على الحكومة. وهو الفخ الذي يمكّن المعارضة من تعطيل عريضة الغالبية ما دامت تمسك هي باكتمال نصاب ثلثي المجلس. وبحسب الحسيني فإن تسجيل العريضة في دوائر المجلس أعطاها إجازة، ولكنها غير صالحة للصرف من دون الثلثين. بهما تكتمل مهمة حكومة تصريف الأعمال ـــــ وهو واقعها راهناً ـــــ لوضع مشروع التعديل الدستوري استناداً إلى العريضة، لا المبادرة باقتراحه.
5 ـ ليس للحكومة أن تتوجّس من مطالبة بري لها بالاستقالة لتصريف الأعمال بغية التحاق الوزراء الشيعة المستقيلين بها وإقرار تعديل الدستور لانتخاب سليمان، كون هذه الاستقالة، في ظل الفراغ، إعلامية لا تحمل في طيّاتها شغوراً دستورياً في السلطة التنفيذية لسببين على الأقل: أولهما أن لا رئيس للجمهورية كي يقبل الاستقالة وهو الجهة الوحيدة الصالحة لذلك، وثانيهما أن في وسعها العودة عنها على غرار حكومات عدّة استقالت ثم عادت عن استقالتها أو أعيد تعويمها. وفي واقع الحال تبدو الاستقالة مخرجاً لساعات قليلة يُنتخب خلالها الرئيس الجديد، وتنتقل الحكومة بعدها إلى واقعها الدستوري، وهو أنها مستقيلة حتماً وباتت معتبرة حكومة تصريف أعمال.