strong>كامل جابر
• قصد البحر ليهاجر إلى أفريقيا فأغرقه في زواريب المدينة

لم تثقل السنون التي زادت على الثمانين همّة شيخ المصورين محمد عبد الباسط ترجمان بعد. لا يزال يحبس أنفاسه كلما وقف خلف عدسته ليلتقط الصورة رقم 30 أو 40 مليوناً، متوّجاً ذاكرة مدينة صُور التي صوّرها بالأسود والأبيض فكرّمته في إطار معرض صوَر أقيم أخيراً

في استديو «رمسيس» في شارع الريفولي يستعيد محمد ترجمان قصة ذلك الشاب الصيداوي الذي قدِم إلى صور بحثاً عن فيزا تنقله إلى أفريقيا فحوّله بحر المدينة إلى مصوّرها الأول.
يعود ترجمان بالذاكرة إلى عام 1936، حين استغلّ العطلة الصيفية المدرسية لكي يغيّر عمله، وهو لما يبلغ بعد الثانية عشرة من العمر، من ناقل للحليب على دراجة هوائية إلى عامل في مهنة صناعة الأجبان والألبان عند خاله أبي منذر القطب. استمرّ في عمله هذا حتى عام 1948، عام النكبة في فلسطين... حيث سجّل هذا العام «نكبة» أخرى على صعيد تجارة الحليب: «تراجعت المهنة بسبب خلط الرعاة الحليب الطازج بالحليب الناشف الذي كان يوزَّع على المهجرين الفلسطينيين؛ صارت البضاعة التي أحضرها من منطقة القاسمية مغشوشة، فأوقف خالي معظم أعماله». في ذلك الوقت كان يعمل من الواحدة فجراً حتى الثامنة صباحاً «أنزل بعدها إلى منشرة والدي وأساعده حتى الثانية بعد الظهر، أنام قليلاً ثم أقضي مجمل وقت العصر قرب البحر؛ ألتقط هناك بعض الصور بكاميرا 130، تعطي ثماني صور». كاميرا كان ثمنها «ليرتين وربع ليرة، وكنت أصوّر فيلمين ثم ألجأ إلى قدامى المصورين في صيدا لأتلقى نصائحهم في ما صوّرت».

الصدفة في الاحتراف

التشجيع الذي كان يلاقيه دفعه إلى تطوير هوايته وشراء كاميرا «لايكا» التي تلتقط 36 صورة بـ65 ليرة لبنانية. وقبل أن يترك معمل الحليب قرب ميناء صيدا، التقى بمغترب قادم من أفريقيا سأله إن كان يرغب في السفر إلى هناك فوافق على الفور وسجّل عنواناً في مدينة صور يجب أن يذهب إليه ليحصلعلى «الفيزا» التي سيرسلها المغترب لاحقاً إليه. «ذهبت إلى صور أكثر من خمس مرات ولم تحضر الأوراق؛ في المشوار الأخير حملت آلة التصوير معي. التقيت بشبان قرب البحر وسألوني أن أصوّرهم ففعلت وتواعدت معهم على اللقاء في اليوم التالي لإعطائهم الصور». وبالفعل هذا ما حصل «وصوّرت فيلمين آخرين وحصلت على مبلغ 16 ليرة، وهكذا صرت آتي صباحاً إلى صور لأصوّر وأعود في المساء إلى صيدا، أطبع الصور وأحضرها معي في اليوم التالي. وبسبب عدم وجود مصوّرين في المدينة، عرض عليّ أحدهم غرفة في حي الكاثوليك لتكون مركز عملي وفعلت، وبقيت على هذه الحال حتى أواخر عام 1949 إذ قررت الإقامة في صور».
لم تكن مهنة ترجمان سهلة، إذ كان يضطرّ إلى الذهاب إلى صيدا يومياً على متن دراجته الهوائية في مختلف الظروف المناخية، لتحميض الصور وتظهيرها وطباعتها وخصوصاً في فترة ما بعد الظهر. فالتيّار الكهربائي لم يكن قد وصل كاملاً إلى مدينة صور بعد، وكان يقتصر على ساعة صباحية وساعتين ليلاً. وبعد الظهر يصبح الوقت غير مناسب للتصوير «فأغتنم الوقت لتحميض الأفلام وطبعها في فترة المساء في صيدا. وذات يوم «شاهدت ميكانيكياً يضيء مصباحاً من سيارته، فقرّرت الاستفادة من هذه الطاقة ونفذت فكرتي، وكنت أول من استخدم طاقة البطارية في طباعة الصور في صور». أما بالنسبة إلى التصوير في الاستديو، فقد «اعتمدت التصوير نهاراً على ضوء الشمس الداخل من واجهة زجاجية بين جدارين طليتهما باللون الأبيض لعكس النور». كاشفاً أنه تعلّم هذه التقنيات من كتاب متواضع عن فن التصوير وطبّقها في محله في صور «بعدما عانيت الأمرّين بسبب الانتقال اليومي من صور إلى صيدا.. أكثر من ساعة ونصف ساعة فوق الدراجة الهوائية في الذهاب أو الإياب...».
بقي ترجمان يعمل وفق هذا المنوال حتى عام 1952، «اشتريت من محل غاما دورنيان في الجميزة كاميرا استديو كبيرة ولوازمها وتدرّبت عليها عنده أكثر من شهر، ثم انطلقت مصوراً أساسياً في المدينة».في هذا الوقت بدأت المدينة تشهد ظهور مصورين آخرين «لكني بقيت أتمتع بأفضلية ومحبة لا توصفان من أهل المدينة. وفي ذلك الوقت أيضاً صرت أنفّذ الـ«روتوش» وأستخدم الفحم في التلوين ومادة الـ«فيكزاتيف» للتثبيت إلى أن... اهتديت صدفة إلى التثبيت بسائل «سفن أب» بعدما وقعت القنينة على إحدى الصور، وبعدما جفّت لاحظت أن لونها صار ثابتاً، فاستغنيت عن الفيكزاتيف الباهظ الثمن وعلّمت الأمر لعدد من المصورين الطفرانين مثلي».
شهد عام 1958 الثورة على الرئيس شمعون «كنت لا أزال في الحارة فشاركت فيها إلى جانب العروبيين الناصريين أميناً للذخيرة؛ وانتقلت سنة كاملة إلى متاريس الثوار والمقاتلين التي انتشرت في المدينة، وهو ما أتاح لي التقاط صور لهم ببنادقهم الممشوقة وحركتهم المتواصلة» هكذا وجد نفسه يعمل «مراسلاً لصحف محلية، منها «الهدف» و«البيرق» و«التلغراف»؛. صوّرت أكثر من 800 صورة لا أزال أحتفظ بها إلى اليوم ولم أسلّمها في حينه إلى أصحابها إلا بعد انتهاء الثورة، مع العلم أنني كنت أقبض ثمنها فوراً بعد تصويرها». حصيلة هذا العمل المادية كانت تسعة آلاف ليرة لبنانية «جهزتني للزواج وشراء منزل في منطقة الرمل في الحوش، وكنت أول من سكن المنطقة». وبعد انتهاء الثورة انتقل ترجمان إلى بستان الكاثوليك وفتح محله الحالي قبل وصول الشارع إليه ويطلق عليه اسم «استديو رمسيس» نسبة إلى تمثال لرمسيس كان في المحل.

بالأبيض والأسود

في عام 1962 أتيحت له فرصة تصوير مدينة صور من الجو، إذ كان على متن مروحية فرنسية. «كنت أحمل الكاميرا التي تصوّر صورة واحدة، لو كنت أعلم أنني سوف أشاهد هذا المنظر الخلاب من الجو لكنت أخذت معي كاميرا 6×9 التي يمكنها أن تلتقط ثماني صور».
رسم أسود وأبيض محمد ترجمان خطوط البحر والأبنية العتيقة وحركة الصيادين بين مدّ الشبكة وجزر الصيد، ثم تعدّد المصورون في صور «لكنني لا أرى لدى أحدهم الحرفية وأصول المهنة. فالمعدّات الحديثة، وخصوصاً الرقمية اليوم، لا تحتاج إلى ذلك الجهدما زال «شيخ المصورين» ونقيبهم في مدينة صور، محمد عبد الباسط ترجمان، يحتفظ بمعدّاته القديمة ومعظم آلات التصوير التي استخدمها خلال عمله في التصوير. حتى أوعية التحميض والتظهير والطباعة، وحبال النشر والمصابيح الحمراء وبعض الأفلام القديمة. لكنه يتحسّر على «أرشيف الصور المدمر خلال العدوان الإسرائيلي الذي تعرضت له مدينة صور في اجتياح عام 1982، فضلاً عن أرشيف من صور لمحترفين كبار جمعها منذ كان شغوفاً في المهنة، لمدينتي صيدا وصور خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية».
إذا عاد الزمن إلى الوراء فلن يختار ترجمان بديلاً عن هذه المهنة «التي حضرت إليها فقيراً ويبدو أنني سأتركها كذلك، أما الغنى منها، فهو أنني علمت ابني وبناتي الأربع أفضل تعليم في أهم المدارس، وحصلوا على أحسن الشهادات. وما أثقل همتي اليوم بسبب إصابتي في العمود الفقري جراء عدوان تموز 2006».




آثار منهوبة

في العام 1964، صوّر ترجمان اكتشاف أحد نواويس صور (160 سم × 80 سم) «قبل أن ينقل إلى المتحف، اشتغلت بعد العام 1962 ست سنوات بالآثار مع البعثة الفرنسية التي أتت من أجل هذا الأمر ووزارة الآثار اللبنانية». لكنه يكشف أنه كان يصوّر «المكتشَف منها قبل الظهر لتختفي بعد الظهر. منها ما نقل إلى متحف اللوفر في فرنسا ومنها إلى المتحف الوطني، أما أكثرها فكان للتجارة»، مؤكداً أنّ «الكثير من السياح كانوا يعودون إلى دولهم محمّلين بالآثار المكتشفة! من يبيعهم إياها، لا أدري». ومن الآثار التي لا ينساها «صحن عليه أربعة رؤوس على جسد خيل؛ هي في الأرجح صور الاسكندر المقدوني، بعدها اختفى هو والفناجين التي كانت إلى جانبه. اكتشفت آثار ربما من 1500 سنة وزجاجاً من مملكة صيدون ولا أدري أين أصبحت كلها».