إبراهيم الأمين
لا تبدو الامور ميسّرة كما أوحت تصريحات السياسيين قبل أيام. وحقيقة الامر مثلما ترويها مراجع معنية تعود الى أن مفاصل البحث تتصل بتعدد مرجعيات القرار في ملف لبنان، “حتى صرنا الآن ضمن لعبة الأمم” كما يقول الرئيس نبيه بري الذي يشعر بضيق من التسويف الحاصل على جبهات عدة، وتجاهل مكامن الخطر ومفاتيح الحل في ازمة قد تأخذ لبنان لا الى المجهول بل الى معلوم اسود وبشع. وبري الذي يستمر في موقع التقاء نصوص الحوار والمبادرات بين السلطة والمعارضة، لم يعد يتردد في قول ما يريد قوله من هنا او من هناك، لكنه يعرف جيداً أن مباشرة السعودية وإيران محاولة جدية للوصول الى حل معقول للأزمة الداخلية أعيدت الى النقطة الصفر. وهو في هذا المجال يبدي تخوفه من انهيار هذه الوساطة لأن في ذلك ما يفتح البلاد على الاصعب.
“لقد اتفق الجانبان في طهران على أن تكون الحكومة مؤلفة من 19 وزيراً للموالاة و11 وزيراً للمعارضة، وحصل تفاهم على أن المحكمة الدولية تقرّ بعد انتهاء التحقيقات في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وأن هناك بعض الامور تحتاج الى متابعة.. ثم توقف الكلام”. فماذ الذي يحصل؟ يسأل بري ويجيب: “إنها المحكمة الدولية ولا شيء غير المحكمة الدولية، قلت لهم منذ اليوم الاول إن التفاهم الضروري بين سوريا والسعودية يخص بالدرجة الاولى المحكمة الدولية، لقد قالت دمشق رأياً صريحاً، أنها غير معنية بالمحكمة الدولية وأنها تنتظر نتائج التحقيق الدولي وبعد ذلك لكل حادث حديث. لكن هناك من يريد العكس. جاءني وليد جنبلاط ليقول لي: لنأخذ المحكمة الدولية ففيها ضمانة لنا بأن سوريا لا تقتلنا، أعطوني المحكمة الدولية وأنا أقنع سعد الحريري بمسامحة سوريا كما فعلت أنا يوم اغتيال والدي”. ويضيف بري: “قلت له هل أنت متأكد أن سوريا هي المسؤولة عن الجريمة؟ ثم إن سوريا لا تمانع قيام المحكمة، لكنها تقول إن الأمر يجب ان يكون مرتبطاً بالتحقيق. وهو امر تبلغه الجميع، وأخيراً عندما تولى الجانب الايراني الحديث مع سوريا سمع منها موقفاً حاسماً في هذا الامر، لدينا ملاحظات ولدينا تصورات، لكن المهم أولاً معرفة نتائج التحقيق وبعدها لا مانع من المحكمة”.
لكن اموراً تحصـــــــل من هنا وهناك ويظل هناك التبــــــــاس. في لجنـــــــة التحقيق الدولية ثمة مشكلة ما. ورئيسها سيرج براميرتس أبلغ الجهات المعنية في لبنان وخارجه أنه سوف ينهي عقده مع اللجنة نهائياً في حزيران المقبل. وسوف يعود الى عمله السابق في المحكمة الدولية ولن يكون له أي دور في المحكمة الدولية، ولن يقبل منصب المدعي العام. وهو سيقدم تقريراً تقنياً في نهاية مهمته ويسلم الملف برمّته الى المدعي العام في المحكمة الذي يتولى متابعة التحقيقات وإعداد القرار الاتهامي وخلاف ذلك”.
عند هذا الحد كان بري يتعامل مع الملف على أنه جزء من السجال السياسي القابل للعلاج. لكن المفاجأة جاءته هذه المرة من حيث لا يحتسب. كان السفير الفرنسي في بيروت برنار إيمييه يجول على عدد من القادة السياسيين، بينهم بري والعماد ميشال عون وأركان فريق السلطة من حلفاء باريس، وعرض إيمييه نتائج باريس ــــــ3 وقلقه من انهيار سياسي او أمني من شأنه ضرب ما تم إنجازه او منع استثماره، وثمة خشية واضحة من احتمال حصول تعطيل. لكن اهتمامه المركزي يبدو واضحاً في نقطة واحدة: المحكمة الدولية. وقال: “إن المحكمة الدولية حاجة ويجب إقرارها في أسرع وقت ممكن. ولا داعي لربطها بنتائج التحقيق”. عند هذا الحد عُلم سبب الحملة القائمة على التفاهم المبدئي الذي تم بين السعودية وإيران على جعل المحكمة تقر بعد انتهاء التحقيق، إذ تبين أن اللجنة الدولية المكلفة التحقيق لم تصل الى نتائج حاسمة تخولها اصدار قرار اتهامي، وهو حال القضاء اللبناني. وما قام به براميرتس خلال الفترة التي انقضت منذ توليه مهماته ادى الى “تنظيف كل ما قام به سلفه ديتليف ميليس. اكتشف سريعاً أن هناك الكثير من الأدلة غير موجودة، وأن توقيفات كثيرة تمت وليس هناك ما يبررها. وأصدر أكثر من مرة اوراقاً بمثابة التوصية بإطلاق موقوفين من الضباط الاربعة، وكانت هناك ورقتان شهيرتان تخصان اللواء جميل السيد. ومع ذلك فإن فريق القضاء اللبناني لم يأخذ بهما. وقال القاضي الياس عيد إنه يريد موافقة النائب العام سعيد ميرزا لأجل إخلاء السبيل، وقال ميرزا إن هناك ما يريد القيام به والتحقيق لم ينته بعد”.
ومع ان إيمييه قال ما هو معروف عن نهاية مهمة براميرتس وعن تقريره التقني ورمي الملف برمته عند المحكمة والمدعي العام، فقد سمع من بري وعون ما لا يعجبه بالتأكيد. قال له بري: “ماذا يعني أن براميرتس سوف يرمي بالملف على طاولة المدعي العام؟ هل يعني أن الاخير سوف يدير الأمر بالطريقة التي تفرض تساؤلات كثيرة؟ هل يعني أنه سوف يتم جلب هذا او ذاك الى التحقيق او الى المحاكمة وفقاً لأجندة سياسية؟ ألا يعني ذلك أن هناك حاجة ملحّة لتنظيم الأمر مسبقاً؟ وماذا يكون الموقف بعد ما قاله وليد جنبلاط بحق حزب الله؟ أليست المخاوف مشروعة بقوة؟ هز إيمييه رأسه وقال “أتفهم الامر.. أتفهّم الامر”. لكنه لم ينس تأكيد ضرورة إقرار المحكمة في أسرع وقت.
أما عون فقال لإيمييه: “هل المطلوب أن نفرض تعديلات على قوانيننا وفق حسابات دولية؟ المحكمة ليست محل رفض من أحد في لبنان، لكن الجميع قبل بها على أساس أنها لا تخالف القوانين اللبنانية، ونحن لدينا في لبنان قوانين للعقوبات تفي بالحاجات المطلوبة، ولا حاجة لأي تعديل. وبالتالي لماذا يجب ان نغيّر قوانيننا وندخل في لعبة لها حسابات تخص غيرنا؟” أيضاً لم يكن لإيمييه ما يقوله سوى التفهم ولكن مع الاصرار على “إقرار المحكمة بصفتها اولوية لا شي يتقدم عليها”.
بعد ذلك لم يكن امام بري سوى أن يمارس رياضة المشي في صالونه الكبير ويعيد حساب الامور على طريقته: يريدون المحكمة وهم لا يريدون منع الفتنة في لبنان.. وهو ما يعني أنهم سوف يعملون على كسب الوقت حتى يحل آذار المقبل لأنهم يعتقدون أنه مع فتح الدورة العادية للمجلس النيابي سوف يأتون حاملين مشروع المحكمة لإقراره كما يريدون غير آبهين بالآخرين ولا بالبلد... إنهم واهمون!.