نادر فوز
بعيداً من اصطفاف الحكومة ومعارضيها، أو اصطفاف 8 و14 آذار، وبعيداً من التجمعات المموّلة من جانب جهات سياسية متنازعة على أحقيّة حب الحياة، ظهرت أصوات جديدة تطالب بوقف «الاقتتال» الداخلي الذي ينهك كل مقوّمات الدولة ومؤسّساتها. حركات اجتماعية عديدة تضع نفسها خارج الأحزاب، تطالب بالعودة إلى الحوار كحل وحيد للشرخ الحاصل في الشارع اللبناني

«تجمّع المواطنين»: من باريس مع حبّي

أطلق «تجمّع المواطنين اللبنانيين وأصدقاء لبنان» في الأول من شهر شباط الجاري نداءً «من أجل صحوة مواطنية»، رأى فيه أنّ المناخ السائد على الساحة اللبنانية «ينذر باستعادة كابوس الحرب الأهلية». ويساهم في إشاعة هذا الكابوس المسؤولون السياسيون ووسائل الإعلام التي تغذيه «عبر حملات دعائية وديماغوجية»، فانقسم جزء من الشعب اللبناني إلى صفيّن، فيما «آخرون كادوا ييأسون من استعادة لبنان مستقر وموحّد».
توجّه النداء أولاً إلى المواطن اللبناني المدعو إلى «التزام» عدد من القضايا كـ«نبذ العنف الكلامي والجسدي» و«النضال ضد أشكال التعصّب» والاعتراف بأنّ الانتماء لطائفة «لا يهدّد الانتماء الطائفي لفئة أخرى» والإقرار بأنّ «الحرب التي عصفت بلبنان كانت حروباً عبثية»، إضافةً للدفاع عمّا يجمع بين اللبنانيين وهو «لبنان موحد ديموقراطي حرّ وسيّد».
وطالب التجمّع المواطنين اللبنانيين بضمّ أصواتهم إلى «النداء»، ودعوة الإعلاميّين لـ«مكافحة التحليلات المنحازة» والعمل من أجل صحافة مستقلّة تمثّل نموذجاً للمنطقة.
وطالب أعضاء التجمّع المسؤولين السياسيين بالاضطلاع بمسؤوليّاتهم تجاه التاريخ وبواجبهم، وذلك بالعمل على «تسوية سياسية» مهما كان شكلها، علّها تؤدي إلى توفير «الاستقرار اللازم»، الذي من شأنه تمهيد الطريق لورش الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي.
كما دعاهم التجمع إلى تأليف لجنة مستقلة من شخصيات تتمتع بالكفاءة، من شأنها العمل على «إرساء قواعد دولة القانون» وتطوير نظامها السياسي. وفي الختام، كانت دعوة إلى جميع اللبنانيين من أجل توقيع النداء على الموقع الإلكتروني للتجمّع www.pourquelelibanvive.com.
وكان «تجمّع المواطنين اللبنانيين وأصدقاء لبنان» قد بدأ عمله خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان، عبر تحركات سلمية ومتآلفة في مدينة باريس تحت شعار «لأجل أن يحيا لبنان».
جمعت هذه التحرّكات لبنانيّين من كلّ الاتّجاهات والأطراف. ومن أبرز النشاطات التي أقامها التجمّع تنظيم اعتصامين خلال شهري تموز وآب الماضيين للمطالبة بـ«الوقف الفوري لإطلاق النار في لبنان»، إضافةً لإجراء لقاء حواري بعنوان «إسرائيل: سياسة القوة أم قوة السياسة» خلال شهر تشرين الأول المنصرم. ويعدّ الأعضاء لنشاط يوم 14 شباط الجاري سيعرض خلاله فيلم «يوميّات بيروت» للمخرجة ميّ المصري. واللافت أنّ كل هذه النشاطات تنظّم في العاصمة الفرنسية.
ويتألف مجلس إدارة «تجمّع المواطنين اللبنانيين وأصدقاء لبنان» من محمد حمدان رئيساً، نصري الصايغ أميناً عاماً وأميناً للسرّ، جويل الخوري سرّانو نائباً للرئيس، إضافةً إلى العضوين الناشطين غادة رحّال ومارون إده.
تندرج أهداف التجمّع، كما يظهر موقعه الإلكتروني، في أربع نقاط، هي تعزيز لبنان وتنوعه ونظامه الديموقراطي؛ وتوعية اللبنانيين في الخارج وغير اللبنانيين الذي يعيرون لبنان أهميةً على مختلف الأصعدة؛ إطلاع وسائل الإعلام والرأي العام في فرنسا والعالم على الأوضاع اللبنانية الحالية إضافةً إلى تاريخ لبنان وثقافته؛ وأخيراً جمع اللبنانيين حول الوطن بعيداً عن الأحزاب، على أسس التعددية والديموقراطية والحرية.
وفي ميثاق التجمّع، وردت قضايا عديدة، منها التمسّك العميق بلبنان الوطن الذي يتخطى الطوائف من دون أن يلغيها، وأنّه وطن ذو هوية عربية ينفتح على الخارج، إضافةً إلى قضايا الدفاع عن لبنان «دولة الحق» وتعزيز المواطنية اللبنانية والدفاع عن الحريات العامة.

11 آذار: «الشغل مش ماشي»

يرى القيّمون على تجمّع 11 آذار أنّ حركتهم وجدت في ظل الانقسام الحاصل بين التجمّعين الآذاريين للتعبير عن أنّ «البلد ليس فقط 8 آذار أو 14 آذار»، على اعتبار أنّ هذا «الصوت المعتدل يمثّل قوة كبرى من اللبنانيين الذين لم تساعدهم الظروف على أن يكون لهم الصوت الأعلى». وكما يشير اسمه، يهدف أنصار «11 آذار» إلى الإشارة إلى أنهم يقفون «على مسافة واحدة من الطرفين المتنازعين»، ويعملون لتأليف نقطة التقاء بين جميع الأطراف على اعتبار «أنّ هناك حاجة إلى الحفاظ على الثوابت والمقوّمات الأساسية للمجتمع اللبناني». ليس من أهداف التجمّع إلغاء احد بل إيجاد قاسم مشترك لعله يساهم في إنقاذ لبنان من تداعيات هذا الانقسام «الذي أفرز تشنجاً خطيراً ينذر بعواقب وخيمة على المستوى الشعبي»، وخصوصاً أنّ الخطاب السياسي راح ينمو باتجاه تحريك النعرات والغرائز الطائفية.
ورأى التجمع في بيان أطلقه بتاريخ 26 كانون الأول أنّ «واجبه الأخلاقي والوطني والديني أن يضع نفسه في تصرف اللبنانيين»، فلا يضع حدوداً لتحركه إلا حدوداً زمنية تنتهي في 11 آذار المقبل. فإذا لم يتم حل الأزمة حتّى ذلك التاريخ، سيقوم أنصار التجمع بتحرّك «أوسع وأشمل للوصول إلى الغاية المنشودة»، وهي الاستقرار واعتماد المشاورات والحوار ولغة التآخي والعقل في الخطاب السياسي إضافةً إلى الابتعاد عن الاستفزازات.
تقول نورا زعيتر، المسؤولة الإعلامية للتجمع، إنّ «11 آذار» لا يطرح إلا الجلوس على طاولة الحوار حلاً للأزمة الحالية، كما أنّ لا موقف محدداً له من كلّ القضايا السياسية العالقة، مؤكدةً على أنّ دور التجمّع ينتهي فور انتهاء الأزمة الحالية، وأنّ دوره بعيد عن أي مصالح سياسية أو انتخابية.
وتقول زعيتر إنّ عدداً من رجال الأعمال يقوم بتمويل التجمّع، وأبرز هؤلاء السيّد مرعي أبو مرعي. لا يسعى المموّلون إلى إبراز أسمائهم، بل يريدون لأعمالهم أن «تمشي»، وهم الذين قد استثمروا أموالهم في لبنان، ولا يتحقّق ذلك إلا عبر تأمين الاستقرار لهذا البلد.
وعن الخطوة التي من المنتظر الإقدام عليها إذا لم تحّل الأزمة قبل نهار 11 آذار المقبل، رأت زعيتر أنّ التحرك لن يكون إلا سلمياً وديموقراطياً «والهدف من خلاله ليس استحداث شارع ثالث». كما أنها أكّدت أنه يتم الإعداد لإصدار بيان أسبوعي، مشيرةً إلى أنّ عدد المواطنين المؤيّدين للتجمع يزداد مع مرور الأيام.
وكان رجل الأعمال مرعي أبو مرعي قد أكد في وقت سابق أن التجمع لن يضم شخصيات سياسية محسوبة على أي طرف انطلاقاً من مبدأ «الوسطية» وعدم الانحياز لأي فريق، لكنه بالتأكيد «سيضم كل المعترضين على الانقسام الحاصل الذي يهدد كل لبنان».
يتألف شعار تجمّع «11 آذار» من شخصين يمثّلان الرقم 11 إضافةً إلى كلمة «آذار». ومن شعاراته: «شبعنا ألوان»، «سوا إيد بإيد»، «خير الأمور أوسطها»، «بدي عيش معك»، «الشر برّا وبعيد»، «قسمنا الفرق بالنص ثلاثة منكن وثلاثة منكن» و«ما بيهم من بيكون قبل»، وهي جميعها موجودة على الموقع الإلكتروني للتجمّع: .11march.orgwww.

«أنا حدا مش مع حدا»: نكهة يساريّة

«العدالة الاجتماعية ـــ إلغاء المحاصصة ـــ العلمانية ـــ المساواة». هذه المطالب أطلقها تجمع «أنا حدا مش مع حدا» في 14 كانون الأول الفائت من أمام مقهى الويمبي، احتجاجاً على الفرز السياسي الحاصل. مجموعة من الأصدقاء قرروا تخطي الحواجز الآذارية ليطلقوا صرختهم: «نحن مش مليون بس موجودين»، إلا أنّهم اصطدموا بحواجز أخرى، وضعها المواطنون اللبنانيون، المتمثلة بتقديس الزعماء والطوائف والمصالح الشخصية.
يطرح هذا التجمّع إمكان تأييد المقاومة والبقاء خارج 8 آذار، أو القدرة على حب الحياة والحرية دون الانتماء إلى14 آذار، إضافة إلى المطالبة بالحقيقة: «من هم أمراء الحرب الأهلية، من في السلطة، من مسؤول عن حجم الدين، من وافق على السياسات السابقة». أسوة بالتجمّعين السابقين، لا يهدف هؤلاء الشبان إلى إنشاء خط ثالث بل إظهار حقيقة وجود مواطنين خارج الطرفين المتنازعين يئسوا من «الطبقة الحاكمة» التي لا تنتفض إلا للمحافظة على مصالحها. كما أنهم لا يملكون «حلاً سحرياً» للأزمة، علماً أنهم يرفضون أي تسوية تطبخ، في الداخل أو في الخارج، على اعتبار أنها ستعيد إنتاج النظام نفسه عبر الشخصيات نفسها والبرامج والمصالح نفسها.
وبعيداً من القضايا السياسية التي أنتجت المزيد من الاختلاف والتشرذم والاحتقان في الشارع اللبناني، أطلّ «الحدا» في تحرك آخر أمام مبنى الإدارة المركزية للجامعة اللبنانية يوم 28 من الشهر نفسه، احتجاجاً على وضع الجامعة الوطنية وأزمتها المزمنة. فطالبوا بتوحيد مباني الجامعة وإتاحة التعليم للجميع دون اعتبار الطائفة والانتماء الحزبي وإبعادهما عن الحركة الطلابية، إضافةً إلى تطهير الجسم الإداري. وطرحوا أيضاً شعاراً بدا واقعياً اليوم «إذا تصالحوا بيدفّعونا ضرائب، وإذا اختلفوا بيدفّعونا دم».
كما سيعمل الناشطون في «حدا مش مع حدا» على إعداد ورقة إصلاحية تطرح وجهة نظرهم في كيفية توزيع الأموال المستحصل عليها في باريس ـــ 3، لتتناسب مع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين، و«كي لا نضطر إلى الوصول إلى باريس ـــ 4».
لـ«حدا مش مع حدا» هوية يسارية مستقلة عن التنظيمات والأحزاب الموجودة على الساحة، وترفض وضع اليسار الحالي، على اعتبار أنّ غياب اليساريين ومواقفهم ومبادئهم في الفترة السابقة والحالية سمح بالوصول للأوضاع الراهنة.
وبعيداً من رجال الأعمال، يعتمد هذا التجمّع على التمويل الذاتي لتحركاته «الخفيفة»، إذ تقتصر النشاطات على رفع بعض لافتات الكرتون وتوزيع القصاصات المصوّرة «بالأبيض والأسود».

التجمّعات المدنيّة: مشقّة الذهاب بعيداً!

ليست هذه التجمّعات إلا عيّنة من مجموعات لبنانية منظّمة أو غير منظّمة بدأت تبدي استياءها من الانقسام السياسي الحاد في البلاد. لكنّها تجمّعات، وإن كانت تبتعد فعلياً عن الطرفين المتنازعين فهي تسعى بوعي إلى إيقاف النزاع الدامي بين الحكومة والمعارضة، إلا أنّ صيغ تشكّلها لا يسمح لها، على الأرجح، بالذهاب بعيداً في إنجاز تغييرات جدية في الساحة اللبنانية.
فتجمّع المواطنين اللبنانيين وأصدقاء لبنان لا ينشط إلا في العاصمة الفرنسية، حيث يتابع أعضاؤه الواقع اللبناني وظروفه الصعبة عبر وسائل الإعلام وما يحكى فيها من آراء ونقل للأحداث المحلية. ولا يبدو أنّ التجمّع قد وجد حتى الآن صيغة لطرح المواطنية والعلمانية وتوعية المجتمع اللبناني إلا من خلال نشاطه في الخارج. كما يمكن ملاحظة أنّ التجمّع لا ينشر قضاياه عبر موقعه الإلكتروني إلا باللغة الفرنسية، علماً أنّ من أهدافه «إعلام وسائل الإعلام والرأي العام في فرنسا والعالم بالأوضاع اللبنانية الحالية إضافةً إلى تاريخ لبنان وثقافته».
أما تجمّع «11 آذار» المدعوم من رجال أعمال وأصحاب مصالح اقتصادية، فهو «ينتهي فور انتهاء الأزمة الحالية». إذ لا يسعى هؤلاء المتمولون إلا إلى المطالبة ببسط الاستقرار في لبنان كي تتحسن استثماراتهم وأرصدتهم. فـ«الاستياء من الوضع الحالي» ليس مماثلاً لاستياء المواطن «العادي» الذي قضى الاقتتال الداخلي على لقمة عيشه.
أما في ما يخص «حدا مش مع حدا»، فمن الواضح أنها مجموعة من الشبان والشابات اليساريين الذين ضاقت بهم الخلافات التنظيمية أو الشخصية ـــ الضيّقة مع التنظيمات اليسارية الكبيرة. وأغلب الظنّ أنّ هذه الخلافات هي مع الحزب الشيوعي إذ إنّ القضايا التي تطرحها مجموعة «الحدا» متطابقة في كلّ المجالات مع طرح «الشيوعي».