غسّان سعود
ستختفي قريباً ملامح حيّ أرمنيّ يؤرخ لقصص كثيرة بدأت قبل أكثر من خمسين عاماً. والبديل بنايات حديثة، حدائق، وموقف للسيارات. وعلى الرغم ممّا تختزنه هذه الخطوة التي ستقدم عليها بلدية برج حمود في «كامب سنجق» من التباسات، يبدو أهل المخيم وبرج حمّود مؤيّدين للمشروع

بمحاذاة الطريق الدولية في منطقة برج حمود، خلف «كباب اسكندر»، «أبو كوكو» ، «أبو فادي» وسائر محلات «الكباب» و«البسترما» و«السجق» و«التراثيات»، ثمة «مخيّم» قديم، كان حتى أيام قليلة ماضية، غير مرئي تماماً. فالسيارات لا تستطيع الدخول إليه، وأزقته لا تتسع لأكثر من شخصين يمشيان بمحاذاة بعضهما بعضاً. وناسه يشتكون من تردّي أوضاع شبكة الصرف الصحي، والانقطاع المستمر للكهرباء في غياب «الاشتراك». أما المياه الوحيدة المتوفّرة بغزارة، فهي، بحسب إحدى السيدات، مياه الأمطار التي لا تجد لنفسها منفذاً. ويبدو من كمّ النفايات المبعثرة في أكثر من اتجاه أن دخول «السوكلينيين» إلى المخيم محظور أيضاً.
وفي تفاصيل المساكن المتلاصقة، نجد أسطحاً من دون أدراج، منازل من دون أبواب، أبواباً من دون أقفال، نوافذ من دون ستائر، وبشراً من دون كهرباء ومياه. وتستكمل الصورة بشعارات كتبت باللغة الأرمنيّة على الحيطان. ووسط هذه المعمعة، تطل وجوه تؤكد «استحالة القدرة على استمرار الحياة في هذا البؤس». هذه العبارة تحولت إلى عنوان لمشروع بدأته «بلدية برج حمود» يقضي بتأمين منازل أخرى لسكان المخيم المالكين، وتدمير المساكن، وإقامة مجمع تجاري في المكان نفسه. وبعد أن تأمنت المنازل البديلة للمقيمين الأرمنيين في «مساكن الأرمن في برج حمود»، وانتهى الرسم الهندسي للمجمع التجاري، وتوافرت الأموال الضرورية لبدء العمل، انطلقت المرحلة الثانية التي تقضي ببدء الاستملاك. فانقسم أبناء المنطقة حول المشروع. والمعنيون خصوصاً هم أصحاب المنازل، وتجّار برج حمود.
يزيد عمر مساكن المخيم المعروف بـ«كامب سنجق» على خمسة عقود. وتكشف حال المنازل عن بؤس الحال الاقتصادية للعائلات التي تسكنها. وكل من يسأل عن رأيه بتغيير جغرافية هذه المنطقة، يعود في جوابه عشرات السنوات إلى الوراء. يكرر الناس قصة قدومهم إلى لبنان، وما تعرضوا له من اضطهاد، مدعمين ذلك بأمثلة. ومؤكدين أن تركهم هذه المنازل يعدّ تنكراً لتاريخ أهلهم، وأشبه بالخيانة. وفي الوقت نفسه، وبتناقض كبير، يقولون إنهم متشجعون للانتقال إلى «مساكن الأرمن في برج حمود». ويوضح هؤلاء أن معظم أهالي المخيم نزحوا عنه خلال السنوات الماضية. ويؤكدون أنهم سيغادرون حيهم للتوجه إلى مساكن تبعد بضع دقائق، وهي منازل حديثة، تتوفر فيها أقله شروط الحياة الكريمة.
أما تجّار برج حمود، فبعضهم يعترض على فكرة إنشاء مجمع تجاري ضخم، سيجذب إليه معظم زبائنهم. ويقولون إنهم لم يتخطّوا بعد تراجع مبيعاتهم لمصلحة الـ«Geant» الذي أقيم على مدخل برج حمود الشمالي. ويقول تجّار آخرون إنّهم سيكونون المستفيدين من المجمع الذي سيُقام على الطريق العام، وبالتالي يفتح لهم الباب لجذب أضعاف زبائنهم المعتادين. واللافت في برج حمود أن معظم الناس، على اختلاف آرائهم، يعودون ويسلمون أمرهم «للنادي»، ويؤكدون ثقتهم بالنهاية في ما قرّر «النادي». و«النادي»، بالنسبة لهؤلاء، ليس سوى حزب الطاشناق.
وإلى جانب الأهالي الأرمن، هناك مجموعات من العمال الأجانب، يبدون أكثر قلقاً على حالهم بعد طردهم من هذه المساكن. ويقول أحد العمال السوريين إن الأحياء داخل برج حمود والنبعة باتت مقفلة، وهناك ارتفاع حاد في أسعار الإيجارات مقابل تراجع فرص العمل. ويوضح أحد الرجال الأرمن أن هناك أكثر من خمسين إثيوبية يعملن في الدعارة، ويعشن في هذه المساحة. وهؤلاء الناس، بحسب الرجل، لن يستطيعوا إيجاد مساكن أخرى، بعدما طردوا من مناطق عدّة، وانتهى بهم المطاف في «السنجق».
وبعيداً من «القال والقيل»، تراهن بلدية برج حمود على نجاح مشروعها. ويؤكد رئيس البلدية أنترانيك نصراليان، أنه واحد من أهم المشاريع بالنسبة إلى برج حمود خلال السنوات العشر الماضية. ويشير عضو المجلس البلدي المحامي أسد صالح إلى أن مجموع مساحة الأراضي التي يشملها المشروع يبلغ 20 ألف متر مربع. ومجمل المساحة تضم بيوتاً من التنك، وأكواخاً سكنها الأرمن منذ عشرات السنين. ويشير إلى أن الكثير من الأرمن غادروا هذه المنازل، ويقومون اليوم بتأجيرها إلى أشخاص سوريين وإثيوبيين يثيرون بدورهم قلق الكثيرين.
وقد نجحت البلدية بالحصول على مرسوم استملاك لهذه الأراضي عبر لجنة الاستئناف البدائية التي حددت تعويضات الاخلاء. وهكذا تقوم البلدية اليوم بالاستملاك ودفع التعويضات التي تتراوح قيمتها، بحسب مكان العقار وحجمه وحالته، بين 15 و70 مليون ليرة. ويقول إن المحال التجارية الواقعة على الطريق العام، ستبقى حتى آخر مرحلة، نظراً لكلفة استملاكها الباهظة. وفي تفاصيل المشروع المنوي إنشاؤه، ستشمل المرحلة الثانية إقامة ثلاث بنايات وحديقة كبيرة وموقف للسيارات، يؤكد معظم أهالي المنطقة حاجتهم الماسّة إليه. وأفضليّة التملك بهذا المشروع ستكون لأصحاب المساكن الحاليين. ويؤكد أفاديس باتشانيان، أحد المطلعين على المشروع، إن غالبية السكّان ينظرون إليه بإيجابية كبيرة، ويتوقعون منه أن يدفع منطقتهم خطوة اقتصادية واجتماعية إلى الأمام. وتجدر الإشارة إلى أن «كاثوليكوسية الأرمن» كانت أول من أشرف في عام 1963 على بناء أول مشروع سكني للأرمن في لبنان لإيواء أهل الكرنتينا، إلا أن المساكن لم تكن في برج حمود بل في منطقة «الفنار»، وكان انتقال الأهالي جماعياً ومنظماً.