أنسي الحاج
إعطاؤكَ الفائض هو تَخلُّص من زوائد. الكَرَم انحرام لإشباع حرمان.

أن تُطمّنَ وأنت مضطرب،
أن تؤمِّل وأنت ميؤوس منك،
أن تُحِبَّ وأنتَ منسيٌّ.

البساطة قمّة، العلم معقَّد. الجهل بسيط، الجهل قمّة.

«الاشتراكي المسيحي أشدّ خطراً من الاشتراكي الملحد» (دوستيوفسكي، «الإخوة كارامازوف»).

التَمَسْخُر على الذات، خاصةً في الانفراد، تنفيس لشيء من غاز الجنون.

غير الطبيعي في رثاء الشاعر لأيّ ميت كان، هو أن الميت ليس هو الشاعر. مشهد غير منطقي، شاعر مفوّه فوق ضريح. المفروض في شاعر حيال موت عزيز عليه، واحد من موقفين: العجز عن الكلام، أو الموت فوق الميت.

يبدو الشعر أحياناً عكس الحب. ربما لأن الحب هو نقصانُنا. نحب من نفتقد له. وبقدر ما نحصل عليه يزيدنا فراغاً، والفراغ توقاً، والتوق تحسّساً بالمطلق، أو بالعدم، وهما سيّان أحياناً.
الشعر فيضٌ يفوقنا. تجلٍّ لا نبرهن عليه بل ينوجد كالمعطيات البديهيّة، كالبديهيات البسيطة والمذهلة.
لكن لا شعر بلا حبّ، لأن المُطْلَق بحاجة إلى من يشتاقه ليحسّ بوجوده. الشعر والحب يتبادلان المفارقة ويتبادلان التجاذب. لا أقصد شعر الحب وحده، بل الشعر عامة. الشعر عامةً، وهو المتشاوف على العقل والحجّة، إنما منبعه ذلك الجوع الباحث عمّا يكمله، عمّا يَنْقصه، عمّا يُنْقصه ويَزيده، عمّا يزكّي غربته حين يحسب أنه قد وجد أخيراً مرايا له.

في البدء على الأرجح كان البحث عن الأمان. أول خَلْجة حملتْ معها أول توجّس. أول طرفة عين هي من خوف. النور بعد الأحشاء تهديد. الناس بعد الخباء أعداء. يمرّ وقت طويل قبل أن يصبح الشارع مُسْكراً. ويصبح مُسْكِراً على غرار السكْر بالخَطَر. إلقاء الذات إلى ما تخشى. التمرمغ في الغابة، على حدود الأشداق.
«قل لي يا مولاي عليكَ الأمان». تَصوَّرْ ذلك المولى فريسةً للقلق مَرْجَعاً للأمان.
ويُعطيه.

لا تنتهي سُبْحة «في البدء». نَقْدر أن نضع وراءها أي عبارة.
في البدء كانت الدهشة، أو الصدمة، أو الصرخة، أو الانفعال، أو الذعر، أو البَرْد.
كلٌّ يَضَع مفتاحه.

الجوهر أيضاً شَكْل. تفرَّسْ فيه ترَ له هيئة. لا جوهر بلا ظلّ. لا ظلّ إلاّ قَبْله هيئة.

«تتبادل الأشجارُ العصافيرَ بمثابة كلمات». (سان بول رو).

ثمّة حالات يعجز فيها الحب كما يعجز العطر في بعض الحالات.

الدموع الناشفة لا تستحقّ صاحبها.

عند منعطف ما، في لحظة سهو، تصطدم فجأةً بشيء (وجه، صورة، حركة) كنتَ دوماً تتفادى النظر إليه. شيء مهروب منه، يلاقيك. يلاقيك بعد طول سنين عند منعطف، يحدّق إليك.
ولو بشكل ملطَّف...
عودة الواقع.
جثّته لا ترقد في القاع.
صراعكَ مع الواقع يحتاج إلى كلّ لحظة ويستنفد جهد العمر. الواقع لا يحتاج كي يهزمك سوى إلى غمزة.

بـخـَجَـــــــل
الخجل.
الخجل من أن تكون هنا على الجمر، ولا تقدر أن تفعل شيئاً.
القهر.
القهر من العجز.
من مشهد إيقاظ أشباح الماضي شبحاً وراء شبح وعودة التقاسيم نفسها: «أنت بدأت... لا، أنت بدأت»، على أجساد الأبرياء.
بلد لا يقيم وزناً للحقيقة، رؤوسه فارغة العيون.
القهر من كونك ولدتَ في هذه الأرض، من مركّباتها ووحوشها، من سلاسل خرافاتها، من دوّامات التلاعب بها وكأنها ما خُلقتْ إلاّ لتكون فدية أو جزية.
القهر من العجز.
القهر من حالات السقوط في الفخّ تتكرّر كأن الأيّام والتجارب تمر على فراغ أبله.
القهر من حيويّة الانتحار، من تجدّد صباه بهذا الزخم العجيب.
عدم الفهم
كيف نتبارز ونتلاكم وكلّ ما هناك يعتصر القلب، أو ما تبقّى من جلْدة القلب؟
أيّة موالاة؟ أيّة معارضة؟ على أيّة عظام تدور المعركة؟
أي دم يُبرّر شلّال دم؟ أي مشروع، أيّة قضيّة تستحقّ تمزيق شعب لم يكد يستعيد أنفاسه؟ أيّة غاية متخيَّلة أو صحيحة، أيّة هواجس تستحقّ استرهان شعب، أيّة محكمة، أيّة عرقلة، أيّة رئاسة، أيّة شرعيّة، أيّة قدسيّة تستحقّ استرقاق شعب وتناتشه وافتراسه، وتستحق هذه الحرب الأهليّة الباردة، الباردة حتّى الآن، الباردة تحت رحمة إشارة؟
بلد ليس فقط بلا ذاكرة بل بلا أهل. ليس فقط بلا أهل بل بلا أبناء. بلد الحرب الأهلية الدائمة لأن دمامل الجهل والحقد تنتقل من جيل إلى جيل ومن طائفة إلى طائفة ومن حزب إلى حزب برعاية الرُعاة وحماية الحُماة. بلد يعشق الحياة وينسى أن يحميها. يتشدّق فهماؤه بالتنوّع وكلٌّ منهم يُضْمر قتل الآخر. بلد أُعطي نعمة التعدّدية درءاً لجفاف الروح وانعتاقاً من خَنْق الأفق الواحد، فلم يفهم حكّامه ولا محكوموه قيمة هذه النعمة، بل فهمها أعداؤه وكمنوا لها يلغّمونها.
بلد يستغيث من حلاوة الروح مستجيراً من القريب ومن البعيد، من الشقيق ومن العدوّ، يده على قلبه من محبّيه قَدْر ما هي من مبغضيه.
بلد خُرّب حتى العظم، جُوّع حتّى العينين، ويرفض أن يموت.
يموت، بلد يموت، ويرفض أن يموت.
كيف ننشر الأمل دون أن يُحْمَل على محمل التخدير أو التحريض؟ بلدنا ذكرى حريّة ووعدٌ بحريّة وبينهما توتّر الانتقال. والانتقال دائم لأن الحاضر دائم.
كيف ننشر الأمل دون أن يُحمل على محمل التخدير أو التحريض؟
أن نُحبّ
أن نُحبّ بإفراط، بفرح وتواضع.
حينها لن يكون ولا لصوت من أصواتنا غير وَقْع السلام.