نقولا ناصيف
لن يكون سهلاً على المعارضة بعد يومي الفوضى والاضطرابات والاشتباك المذهبي، في 23 كانون الثاني و25 منه، تكرار المحاولة. يسلّم بذلك أركان بارزون فيها، إذ يتحدثون عن استمرار الاعتصام المفتوح والمواجهة مع حكومة الرئيس فؤاد السنيورة وقوى 14 آذار التي تدعمها، لكن من ضمن أشكال أخرى، مختلفة، تفضي إلى الهدف نفسه. وينطلق اعتراف هؤلاء بإخفاق إضراب 23 كانون الثاني من استغلال السلطة ومؤيديها قطع الطرق الذي أقدمت عليه المعارضة لدفع المواجهة في منحى مذهبي، بحيث بات تحرّك الشارع يعادل انفجار صراع مذهبي وشيك، سرعان ما أتت أحداث الخميس 25 كانون الثاني لتؤكد جديّته وجديّة قوى 14 آذار في الانتقال بالمواجهة إلى الذروة وإدخال البلاد في حرب شوارع مذهبية.
خلاصة هذا الاستنتاج في أذهان الأركان البارزين في المعارضة، محاولة الغالبية إخراج الشارع من الصراع السياسي تحت طائلة تحويله مسرح اقتتال، تارة باسم رفض إقفال الطرق، وطوراً باسم موازنة شارع معارض بشارع موال يتصدى للطرف الآخر بشتى الوسائل المتاحة. بذلك يكون طرفا النزاع قد تبادلا عرض قوة مدمراً: أظهرت المعارضة مقدرتها على إقفال معظم الطرق وشلّ الحياة اليومية والاقتصادية، من غير أن يكون في وسع قوى 14 آذار إعادة فتحها وإن بالقوة، وأظهرت الأخيرة مقدرتها على دفع المواجهة إلى حيث تُحمّل المعارضة وزر أي حرب شوارع مذهبية من خلال جعل العنف القاسم المشترك بين الشارعين.
بيد أن الواقع الجديد الذي نشأ من نتائج أحداث 23 كانون الثاني و25 منه، يفضي إلى بضعة معطيات، منها:
1 ـــــ أن تقييد تحرّك المعارضة في الشارع، وإن في ظل استمرار الاعتصام المفتوح في ساحتي رياض الصلح والشهداء، يفقدها فاعلية ضغوطها على حكومة السنيورة لإرغامها على الاستقالة، كون هذه لا تزال تتسلّح، ظاهراً على الأقل، بأكثريتين دستوريتين في مجلس الوزراء ومجلس النواب. وما دامت فوضى الشارع تقود إلى أكثر من تقويض السلطة المركزية التي تمثلها سيطرة قوى 14 آذار على الحكم، أي إلى حرب شوارع مذهبية، فلا أحد في المعارضة سيجازف بهذا الخيار. وهو ما أعلنه رأس حربة المعارضة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله.
2 ـــــ تعويل الغالبية على عامل الوقت حتى بلوغ موعد انتخابات رئاسة الجمهورية الخريف المقبل في ظل استمرار حكومة السنيورة في السلطة، وذلك بالتزامن مع حصولها يوماً بعد آخر على مزيد من الدعم الدولي لشرعيتها، وكي تكون أكثر قدرة على الصمود، بل أكثر تبريراً لبقائها في الحكم تحوّطاً من فراغ دستوري قد يترتب على الخلاف اللبناني ـــ اللبناني في شأن الانتخابات الرئاسية. مغزى ذلك حاجة المجتمع الدولي، ولا سيما واشنطن وباريس، إلى بقاء الحكومة الحالية، بالغالبية التي تجسدها قوى 14 آذار، المرجعية الدستورية الوحيدة المؤهلة لتسلم صلاحيات رئاسة الجمهورية إذا تعذّر إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها الدستوري.
وأكثر من أي وقت مضى، للمفارقة فحسب، قد لا يمانع الأميركيون والفرنسيون هذه المرة في فراغ دستوري في رئاسة الجمهورية إذا نيط بحكومة السنيورة ملء الشغور. ولعلّهما منذ صدور القرار 1559 في أيلول 2004، وسحبهما الضمني اعترافهما بشرعية الولاية الثانية للرئيس إميل لحود، اعتادا وجود شغور في رئاسة الجمهورية بسبب مقاطعتهما الرئيس اللبناني وتجاوزه في علاقاتهما بالدولة اللبنانية، وحصر هذه العلاقات بحكومة السنيورة. ولم يكن هذا موقفهما التقليدي، في الغالب، من الاستحقاق الرئاسي. في نيسان 1976 أرسلت واشنطن إلى لبنان أحد أبرز ديبلوماسييها دين براون لتنظيم انتخاب الرئيس الياس سركيس تجنباً لفراغ دستوري جراء «حرب السنتين». وفي آب 1982 أوفدت باريس وزير خارجيتها كلود شيسون ليتمنى على سركيس تمديد ولايته سنتين حقناً لانقسام تسبب به ترشيح الرئيس بشير الجميل للمنصب. وفي آب 1988 سارعت واشنطن إلى إيفاد كبير موظفي وزارة الخارجية ريتشارد مورفي إلى بيروت ودمشق للاتفاق على رئيس يجنّب لبنان فراغاً دستورياً، قبل أن يختار مورفي والرئيس حافظ الأسد النائب مخايل الضاهر مرشحاً وحيداً... «وإلاّ فالفوضى»، كما جرى تهديد المسيحيين. وفي الأمس القريب استعجلت واشنطن وباريس انتخاب الرئيس رينيه معوض في تشرين الثاني 1989، ثم أُطلقت يد سوريا في انتخاب الرئيس الياس الهراوي الشهر نفسه من أجل وضع حدّ للفراغ الدستوري.
وهكذا تبعاً لتوازن قوى داخلي وخارجي يرتسم مصير الرئاسة اللبنانية، ويصير الفراغ الدستوري حلالاً حيث كان حراماً لحماية الواقع السياسي اللبناني القائم منذ انتخابات 2005، وكي لا تأتي المعارضة برئيس حليف لها. كان الأميركيون والفرنسيون، على مرّ هذه الاستحقاقات، يحتاجون مباشرة أو مداورة إلى دور سوريا لحفظ ديمومة مسار المؤسسات الدستورية اللبنانية. فيما أضحت حكومة السنيورة اليوم معيار تكوين السلطات والمؤسسات الدستورية «المنتخبة ديموقراطياً».
وأكثر من أي وقت مضى، تبدو حكومة السنيورة في حاجة ملحة إلى التوقيع الدستوري لرئيس الجمهورية، لا إلى الرجل.
3 ـــــ لا غلو في القول إن قوى 14 آذار كسبت حتى الآن أكثر من جولة سياسية وديبلوماسية في مواجهة المعارضة، سواء بتثيت دستورية حكومة السنيورة، أو بتعزيز تحركها الدولي من خلال إبراز البعد الإقليمي للصراع الدائر في لبنان على أساس أنه بين حكومة السنيورة وسوريا وإيران، وليس بينها وأفرقاء المعارضة الذين تظهرهم ديبلوماسية حكومة السنيورة على أنهم رجع صدى الصراع الإقليمي. وقد يكون السلاحان الأبرزان اللذان تستخدمهما الغالبية لتحديد ملامح هذا الصراع هما المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري والقرار 1701، بحيث تمثل حكومة السنيورة ضماناً فعلياً للأول الذي يقود إلى إنهاء أي تدخل سوري سياسي وأمني في الشؤون اللبنانية، وللثاني الذي يمنع عودة الفوضى والاضطرابات إلى جنوب لبنان. وفي واقع الأمر يؤول نجاح هذين الاستحقاقين ضمناً إلى تنفيذ ما بقي من القرار 1559.
وخلافاً لقوى 14 آذار، فإن مقاربة المعارضة لعامل الوقت تبدو أكثر إرباكاً وكلفة. ومع تسليمها بنجاحها في تجريد حكومة السنيورة من قدرتها على الحكم واتخاذ قرارات لا يكون المجتمع الدولي شريكاً فيها، كتنفيذ القرار 1701 ومؤتمر باريس ـــ 3، لم تعد الخيارات المتاحة أمام المعارضة وفيرة ومؤثرة كما كانت قبل 23 كانون الثاني الفائت. رغم أنها لم تستنفد بعد فاعلية وجودها في الشارع.