عرفات حجازي
يرسل الوضع اللبناني هذه الأيام إشارات ملتبسة تتداخل فيها الإيجابيات مع السلبيات وعوامل التهدئة مع عوامل التسخين، كما أن الاتصالات والمشاورات الجارية على غير صعيد محلي وإقليمي ودولي، توحي حيناً باقتراب الحلول وتلمّس المخارج، وحيناً آخر تتراجع بوادر الانفراج. وبين الهبات الباردة والساخنة لم يرشح حتى الساعة أي معطى يمكن البناء عليه لاستكشاف إمكانات إنتاج تسوية بين فريقي السلطة والمعارضة، وإن كان العاملون في هذا الاتجاه ما زالوا يعلقون آمالاً على الوصول إلى نتائج مشجعة خلال الأسبوعين المقبلين، ربطاً بالمساعي المكثفة التي فتحت آفاقاً جديدة أمام حلحلة الأزمة من خلال مجموعة أفكار وجد مرجع سياسي كبير أنها تصلح أساساً للتوافق بين اللبنانيين، وهو ما دفعه إلى إعطاء الانطباع بأن ثمة مقاربات جدية لفتح الانسداد بحل سياسي وعدم ترك الأزمة تسير على إيقاع أزمات المنطقة المشتعلة والمتعددة الجبهات.
ويلفت المرجع إلى أن المعطيات التي تجمعت لديه من خلال المشاورات السعودية - الإيرانية تفيد بأن الطرفين حسما موضوع تشكيل حكومة وحدة وطنية يعطى فيها للمعارضة الثلث الضامن، كما يتم التفاهم والاتفاق على إنشاء المحكمة ذات الطابع الدولي وإقرار مشروعها في المؤسسات الدستورية بدءاً من حكومة الوحدة الوطنية بعد البحث في التعديلات والملاحظات التي تطرحها المعارضة على نظامها الداخلي، ثم إحالتها على المجلس النيابي لإقرار تشكيلها بالإجماع، على أن يؤجل البت في تعيين قضاتها وتشكيلها إلى ما بعد انتهاء التحقيق الدولي. هذه المعطيات دفعت المرجع السياسي إلى اختراق أجواء التشاؤم، إضافة إلى ما لديه من تقديرات تميل إلى توقع العودة إلى المسار السياسي وتجميد لعبة الشارع عند المنعطف الخطير الذي بلغته في الثالث والعشرين والخامس والعشرين من الشهر الماضي. لكن الصدمة جاءت بعد خمسة أيام على المعطيات السارة، عندما بلغه أن المساعي الإيرانية - السعودية توقفت، أو هي على الأقل في طور التجميد، وهذا ما أعاد القضية إلى مربع القلق والخوف من عواقب العودة إلى الاندفاع بالخطوات والمواقف إلى أبعد مما تتحمله الساحة الداخلية لكثرة ما تختزنه من هشاشة وعوامل احتقان.
وفي اعتقاد المرجع السياسي أن استعجال فريق السلطة عودة عمرو موسى إلى بيروت في ظل تراجع الإيجابيات وتجميد المسعى الإيراني - السعودي بفعل ضغوط أميركية وفرنسية لم يكن بدافع الحرص على إيجاد تسوية، بقدر ما يندرج في إطار سياسة كسب الوقت بما يتيح الوصول إلى منتصف آذار عندما يحين موعد فتح الدورة العادية لمجلس النواب، حيث يأملون بإقرار المحكمة الدولية ومشاريع قوانين أخرى من دون التوافق عليها مسبقاً.
ولأن موسى يدرك مدى تعقيدات الأزمة وتداخلها، وهو صاحب نظرية الدور المتعدد الطبقات، ويعرف أيضاً أن الطريق إلى بيروت تمر بعواصم عربية وإقليمية ودولية، فقد بقي على اتصال دائم بمسؤولي هذه العواصم ويتسقط أخبار المساعي والمداولات، خصوصاً الحركة السعودية - الإيرانية المفتوحة على واشنطن من خلال الرياض وعلى دمشق من خلال طهران، آملاً أن تساعده موسكو التي يزورها قبل المجيء إلى بيروت على حل عقدة المحكمة الدولية التي يراها من المداخل الرئيسية للولوج إلى تسوية معقولة، مع لفت النظر إلى أن الروس لا يؤيدون التسرع غير الضروري في التحقيق، ويرون أن الاقتراح الوسط الذي طرحه الإيرانيون والسعوديون للمحكمة لجهة إقرارها في المؤسسات الدستورية وتشكيلها بعد التحقيق مناسب ومعقول.
وإذا كان من المبكر إعطاء انطباعات أو تقديرات مسبقة حيال حظوظ نجاح موسى أو فشله، فالمؤكد أن عودته إلى بيروت متخلياً عن شروطه وتحفظاته، تحمل على الاعتقاد بأن الرجل لمس ما يشجع على تغيير موقفه، ولو من باب الإيحاءات والإشارات التي تلقاها من مواقع عربية وإقليمية ودولية، ورأى فيها ما يصلح ليكون مدخلاً لتحريك مبادرته.
صحيح أن الدخان الأبيض لم يتصاعد من مداخن الوساطات والمساعي المتعددة، لكن ما رشح عنها أن هناك تفاهمات حصلت في خطوط عريضة أبلغت إلى أطراف الأزمة التي سارعت إلى تهدئة خطابها السياسي وأدخلت إليه مفردات مطمئنة، وهذا ما يوحي بوجود استعدادات لتسهيل الأمور على قاعدة أن يأخذ كل طرف بعض ما يريد، لا كل ما يريد، وبالتالي صياغة حل متوازن مشرف للجميع.
وفي معلومات تجمعت لدى أحد الدبلوماسيين الناشطين على خط الأزمة أن الأسبوعين المقبلين سيرسمان الواقع السياسي الجديد في لبنان بعد أن استهلكت القوى المتصارعة ما في جعبتها من عروض القوة، ولعبت ما تمتلكه من أوراق، من غير أن تحدث أي اختراق في المشهد السياسي، فلا المعارضة استطاعت أن تستثمر تحركها على مدى شهرين سياسياً، فتوقفت في نقطة حرجة لا تستطيع التقدم أو التراجع من دون أكلاف باهظة، ولا الحكومة قادرة على أن تستمر في تجاهل تداعيات الحركة الاحتجاجية للمعارضة وكأن شيئاً لم يكن، وهذا ما جعل الوضع عالقاً بين حكومة لا تزال تمتلك زمام الحل ولا تبادر إليه، ومعارضة تمتلك زمام التصعيد ولا تتراجع عنه. والسؤال: هل سيكون في قدرة موسى كسر هذه المعادلة والخروج من حالة الاستنقاع هذه بحل يحفظ ماء وجه الجميع؟