الكذبولوجيا
  • عبد العزيز محمد سبيتي ـ رئيس النادي الثقافي الاجتماعي ـ كفرصير

  • منذ أن استقلّ لبنان عام 1943، تم الاتفاق بالتراضي على توزيع الرئاسات الثلاث الأولى بين أكبر الطوائف الثلاث: موارنة، شيعة وسنة. ومنذ الاستقلال وحتى الطائف، كان العرف والتوافق يوزعان الرئاسات. وبعد الطائف، تكرس العرف والتوافق بالميثاق، وأصبح لا يحقّ لأي من الرئاسات التفكير في الأخرى عكس ما كان يحصل قبل الطائف. إذ كان يترشح للرئاسة الأولى مثلاً أيّ مواطن ومن أية طائفة لا يهمّ... ومنذ الاستقلال حتى الطائف، كان التفاهم الماروني ــ السني يمثّل القوى التي تلزم الرئاسة الثانية بمعظم مقرراتها، مع معرفة الجميع بمبدأ فصل السلطات.
    وأما بعد الطائف، فقد أصبح التفاهم السني ــ الشيعي هو الأقوى لأن الطائف قد خفف من صلاحيات الرئاسة الأولى لمصلحة مجلس الوزراء ورئيسه، وعزز في الوقت نفسه الرئاسة الثانية.
    وطوال حكم الرئيس الياس الهراوي، كانت القيادات الثلاث تتعايش في ما بينها، تتقارب وتتباعد وتتفق وتختلف. مرة يكون اتفاق «ترويكا»، ومرة يكون الاتفاق على طريقة «الدويكا». وبعد عهد الرئيس الهراوي، جاء عهد الرئيس لحود الذي اعتلى كرسي الرئاسة الأولى بتأييد شعبي شارف حدود استفتاءات الأنظمة العربية، لكن بصدق. ولأن الرئيس لحود كان قائداً للجيش، ونجح في إعادة توحيده، فقد رفض موضوع الترويكا. ومن أول الطريق اختلف مع المغفور له الرئيس الحريري، ومن هناك بدأت المشاكل لأن الانقلاب قد حصل بحيث بات التفاهم الماروني ــ الشيعي عبر الرئاستين الأولى والثانية هو الأقوى. وكانت سوريا، بدايةً ونهايةً، تتدخل ليبقى الوضع تحت السيطرة، والجميع لا يخالف لها أمراً.
    وحصل الزلزال... واستشهد الرئيس الحريري. وبعده، رحمه الله، ازدادت قوى التحالف الشيعي ــ الماروني، وضعفت قوى الطائفة السنية، وطبعاً على صعيد الحكم، بحيث كان التفاهم بين السنة والدروز وبعض الآخرين من الطوائف الأخرى.
    وانسحبت سوريا بعد أن انقلب عليها واتهمها الكثيرون. وطبعاً عاد لبنان الى أجواء ما قبل الحرب الأهلية عام 1975، لكن بلا سلاح وبلا قوة فلسطينية أو قوة سورية، مع الإشارة الى أن من من يمتلك السلاح يؤذيه استعماله داخلياً، ومن لا يملكه لا يقدم إلا الأقوال إلا اذا... وانعقدت طاولة الحوار وبعدها التشاور. وللأسف، الشيء الأهم الذي لم يتم التوافق عليه هو الوطن... والذي يفترض أن يكون قبل الدين والطائفة والحزب والقائد والسياسة، ولكن للأسف أيضاً لأننا أساتذة في علم الكذب والتكاذب، فكنا نرى معظم المجتمعين وكأنهم قد اتفقوا على كل شيء، وفجأة نعلم أنهم اتفقوا على شيء واحد، هو أنهم لم يتفقوا.
    وحصلت الاعتداءات الإسرائيلية بحيث رفع الوطن رأسه، وربما للمرة الاولى، لأنه صار حديث الجميع في الداخل والخارج. وانتهت الحرب، وعاد الخلاف بين منهزم ومنتصر، وبدل أن يفتخر الجميع بوحدة الوطن، عاد الجميع كل إلى تلفازه وجريدته وإذاعته وهات يا ردح بين أيام آذار الملعون الذي ليته لم يكن من أشهر السنة.
    وفجأة، طفت على السطح نغمة مذهبية بين سنة وشيعة. ولماذا وكيف ومن أشعل نارها ومن المستفيد منها؟ المواطن البريء العادي لا يدري، وانقسمت آراء أهل الشارع والحي والبناية والبيت الواحد حتى، لأن التداخل العائلي والأسروي أكبر من أن يحصى.ومن أطلق هذه النغمة النشاز لا بد أن يستفيد من إطلاقها وبالتأكيد ليس بسنّي ولا شيعي لأن المذهبين يجمعهما دين، يحذر في أكثر من آية من هذه الآفة التي تضعف الدين وأهله.
    وبات البعض يظنون أن أهل السنّة في خطر، وكأن رئاسة الحكومة ستؤخذ منهم مع علمهم بأن قانون الطائف، كما أسلفنا، قد حدد وكرّس طائفيّة الرئاسات الثلاث الأولى. والأمر الذي لم يعلن هو الخوف من التلاقي والتفاهم الماروني الشيعي سواء عبر الرئاستين الأولى والثانية أو عبر التفاهم بين حزب الله الشيعي والعماد ميشال عون والتيار الوطني الحر الماروني.
    وهذه العلة لا يمكن إيجاد دوائها إلا بأولوية الانتماء الوطني الذي نسيه أهل السياسة أو معظمهم، وبعض أهل الدين. ولم يبق إلا مؤسسة لبنانية واحدة هي مؤسسة الجيش التي لا تعرف إلا الانتماء للوطن، ولا يهمها إلا الدفاع عنه، وخاصة أن قائد المؤسسة هو الوحيد الذي لم يجرؤ أحد حتى تاريخه على اتهامه أنه مع أو ضد. والكل يجمع أنه وطني لبناني بامتياز، وكذلك جميع من في مؤسسته التي باتت الأمل الوحيد الذي سيعيد للوطن هدوءه واستقراره، طبعاً ليس بالبلاغ رقم واحد بل بحماية الوطن والشعب، لا بحماية النظام والحكم وأهله كما هي الحال مع الآخرين.