strong>مهى زراقط
إنّه اليوم الخامس الذي تخرج فيه أمّ خالد من منزلها في الضاحية الجنوبية لبيروت من دون أن تلقي التحية الصباحية على جارتها أمّ محمد. تغيب حتى الظهر، وحين تعود تبدو منهكة ويائسة، وتجد نفسها محرجة في الإجابة عن سؤال جارتها المتكرر لها عن المكان الذي تذهب إليه كل يوم.
هذ الحالة لم تعجب أم محمد التي اعتادت معرفة أسرار البناية كلها. «فهل سأعجز عن جارتي وبابها مقابل بابي» تقول لزوجها وهي تضع عباءة سوداء فوق ثيابها المنزلية، وتتأهب للخروج من دون أن تنسى ركوة القهوة الكبيرة التي حضّرتها. «لن أعتقها قبل أن تخبرني ما يشغل بالها»، تضيف ضاحكة وتصفق الباب خلفها.
غير أن أمّ خالد لم تكن بحاجة ذلك العصر إلى من يعتقها. مع الفنجان الأول، وجدت نفسها تعترف: «كنت أبحث عن شقة في بيروت. الشباب طلبوا مني ذلك، اتصل بي ابني علي من فرنسا ونصحني بمغادرة الضاحية، لكن أين أغادر؟ أرخص شقة وجدتها بـ250 ألف دولار...».
إجابة لم تكن على بال أمّ محمد، هي التي وجدت لسانها للمرة الأولى في حياتها «مربوطاً» وعاجزاً عن كيل سلسلة الشتائم التي باتت تطلقها ضد «السنّة الذين يتهمون الشيعة بالاعتداء عليهم، في حين أن العكس هو الصحيح».
تصيغ جملتها بهدوء يناسب الحالة المستجدّة: «علي هو من طلب منك ذلك؟ ولو؟ ونحن لا نناديك إلّا أمّ علي؟ هل نسي أنه تربّى وكبر معنا؟ هل أخبرته أن الضاحية أمان ولا يمكن أن يحصل فيها ضربة كف؟
تلوّح أم خالد بيديها كمن لا يملك قراره، وتقول بحزن: «هو يعرف وأنا أعرف، لكن عندما يفلت الزعران من سيحميني؟».
أم محمد لسانها مربوط مجدداً. وأم خالد حزينة لأن أولادها المغتربين خائفون عليها وعلى والدهم من المكان الذي قضوا فيه أكثر من ثلاثين عاماً من عمرهم. وركوة القهوة تملأ الفنجانين تكراراً من دون أن تجد السيدتان الخمسينيتان ما تضيفانهلا تنزيلات في محل الثياب، إذاً لا زبائن. والصبية الشقراء كانت جالسة وحدها، تراقب بحذر الشاب الذي أوقف سيارته الصفراء أمام باب محلها، مديراً الراديو على خطاب للأمين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصر الله.
«إنشالله ما يطوّل»
«لماذا؟» نسألها، فتكتشف أنها عبّرت عن رأيها بصوت مرتفع. تمسك بنطلون الجينز وتطويه، فيما تطلب إعادة السؤال الذي لم تسمعه كما تقول من دون أن تنجح في إخفاء احمرار وجنتيها.
«لماذا لا تريدينه أن يطوّل؟»
لا تجيب مباشرة. تبادر هي إلى طرح سلسلة من الأسئلة: «هذه أول مرة أراك في الحي، من أين أنت؟ هل تحبين السيّد حسن؟». قبل أن تقرر الإجابة لكن بتحفظ: هذه حركة استفزازية إلا إذا كان ينتظر أحداً وسيرحل سريعاً.
لا يبدو أن ملاحظة الفتاة مجرد توقع. هي ساقتها بناءً على «سابقة» حصلت قبل يومين عندما مرّ شخص غريب عن الحي بسيارته وكان يضع الراديو أيضاً على خطاب للسيّد حسن «مرّ بسيارته مرتين. ربما من دون قصد، لكن شباب الحي اعتبروه استفزازاً، تجمّعوا وقرّروا أن يضربوه إذا مرّ مجدداً، لحسن الحظ أنه لم يفعل».
الصبيّة «من النبطية»، لكن شباب الحي المنتمين إلى «الحزب التقدمي الاشتراكي» يحيطون بها «وأكدوا لي أنهم لن يسمحوا لأحد بمضايقتي أو استفزازي»أم محمد في منزلها، وقد انطلق لسانها. تقول لابنتها المتزوجة التي جاءت تزورها: «علي بيطلع منّو هيك؟ علي يريدها أن تغادر؟... ثلاثون عاماً معاً وتذهب للبحث عن بيت خارج الضاحية من دون أن تخبرني؟».
يدور هذا الحديث في وقت يغافل فيه الحفيد وائل، ابن السنوات السبع، جدته وأمه ويتسلل كعادته إلى بيت أم خالد. يجلس كعادته قبالة التلفزيون المفتوح على شاشة «المستقبل». دقائق معدودة وتنطلق الصرخة: «روح عند أمك... روح خلّيها تربّيك...». جملتان تستدعيان أصحاب المنزلين إلى الخارج. تقول أم خالد بعصبية غير معهودة: «أنتما أرسلتماه ليشتم السنيورة؟ مش عيب؟ أهكذا تربيانه؟
وائل المذعور من غضب السيدة التي اعتادت استقباله بحبّ، يقول لأمه باكياً: «كنت أهتف كما في المظاهرة، يا سنيورة قول الحق...».
تسكته أمه قبل أن يكمل الجملة وتعتذر من الجارة: «سامحيني أنا يا طانط، بتعرفي عم يسمع من رفقاتو...».
لكن أم خالد لم تكن قادرة ذلك اليوم على مسامحة أحد. تفرغ القديم والجديد وتصل إلى النقطة الحسّاسة: «حتى اسمي لا تقولونه صحيحاً. أنا أم خالد ولست أم علي. لا تريدون أن تعترفوا بي...».
ومجدداً، تعجز أم محمد عن الرد. «لو أنها شتمت السيّد كنت عرفت كيف بردّ، لكنها تعترض على تسميتنا لها... وأنا كنت أعتقد أني أتحبّب لها ولزوجها حين أقول له يا أبو علي»حالة الاطمئنان التي تعيشها الصبية الشقراء لا تنسحب على بائع الخضر السوري. التفت مبكراً إلى ضرورة تغيير مكان جهاز التلفزيون كي لا يعرف أحد أنه يتابع قناة المنار. يدلّ إلى الصندوق الخشبي الذي يخفي فيه التلفزيون المطفأ «حتى الآن لم يتّعرض لي أحد، لكنني أحتاط. عندما تندلع الفتنة سأكون أنا الحلقة الأضعف» يقول بلهجته السورية بعد سلسلة من الأسئلة «الاحترازية» التي تتيح له التعبير عن رأيه من دون خوف: «لماذا تسألين؟ مع من تعملين؟...».
يصمت مع دخول زبائن إلى المحل، ويغرق في وصف محاسن الفجل الأبيض لهم. يستمر في صمته حتى بعد خروجهم ويقرر فجأة عدم الاستمرار في الكلام «أصلاً أنا لا أتحدث في السياسة وأمنع أحداً من الحديث في السياسة هنا».
كذلك يفعل صاحب المكتبة، رغم أنه من أبناء المنطقة «الأصليين». هو لا يخفي انتماءه إلى «تيار المستقبل»، لكنه لا يحب المشاكل «ولا أعرف لماذا تغيّر السيّد حسن هكذا، كنت أحبه ولا أسمح لأحد أن يحكي ضده، لكنه تغيّر. يحكي ضد السنيورة وضد الشيخ سعد، متناسياً أن زعيمنا قتل... من أين نأتي مرة ثانية بشخص مثل رفيق الحريري؟».
برأيه، يرفض السيّد حسن المحكمة الدولية لأنه «لا يستطيع التخلي عن بشار الأسد... هل نسيت كيف أهدى سلاح المقاومة إلى رستم غزالي؟ لا أستطيع أن أبرّر له هذا التصرف كما لا أفهم هجوم الشيعة على الطريق الجديدة يومي الثلاثاء والخميس»«والله؟ ثلاثة شهداء للمعارضة؟ أين؟ هل هجم «السنّة» على الضاحية؟»
تسأل أم خالد جارتها بتهكّم واضح لا تخفيه محاولاتها المتعثرة لضبط النفس. تكمل أم محمد الرواية وفي ذهنها أنها هكذا تضع النقاط فوق الحروف:
«في الجامعة العربية… ألم تسمعي الأخبار؟ كان هناك قناصون من «تيار المستقبل»..
«وماذا كانت تفعل المعارضة في الجامعة العربية؟ شو إلن شغل بالجامعة العربية والطريق الجديدة؟».
هذه المرة تتدخل سمية، «كنة» أم خالد الشيعية، لمنع انفجار صبحية القهوة. تصرخ بها حماتها «شو؟ رديتي لأصلك؟»، وتكمل بعصبية واضحة: «أنا لا أقبل أن يحكي أحد عن الشيخ سعد أو السنيورة في بيتي. تريدين أن تقنعيني أن شباب «حركة أمل» أوادم ولم يفعلوا شيئاً؟ قنّاصين… منذ متى يعرف السنّة استعمال السلاح؟ في غير قليلات والمرابطون حملوا سلاح؟»
أم محمد لا تجيب، تعود إلى البيت غاضبة وتترك العنان للسانها: «كيف غسلوا لها دماغها؟ الشيخ سعد تقول لي… من أين أتى بالمشيخة…. ترى الصور وتكذبها…
يصرخ بها زوجها: «قولي هذا الكلام لها. وإذا لم تكوني قادرة على الرد عليها فعليك أن لا تسمحي لها بالحديث السياسي».
أبو خالد يقول الشيء ذاته لزوجته «تريدين أن تخربي البيت؟ نحن نعيش بينهم… اتركيها تحكي ضد السنيورة أو امتنعا عن الحديث في السياسة»«ممنوع الحكي بالسياسة» لافتة وضعها معتز قرب لافتة «الدين ممنوع». لكن لكل لافتة استثناءاتها يقول ضاحكاً. فالدين ممنوع فقط على من لا يدفعون المستحقات آخر الشهر… والحديث في السياسة؟ «ممنوع على من يفتعلون المشاكل». ويتابع «وما أكثرهم… لم نعد نكتفي بالقوى الأمنية بل صرنا نستعين بالأمن الخاص».
والأمن الخاص هو «قبضاي» الحي الذي يحرص على روح الألفة والمحبة بين المواطنين، متعددي الطوائف والمذاهب. يدل معتز بيده إلى شاب مفتول العضلات كان منهمكاً بإصلاح عطل في دراجته النارية «كلما شعر بأن صوت الشباب ارتفع يتدخل ويفض التجمع… نأمل أن يبقى الوضع كذلك، فهذا يعني أن قرار الحرب لم يتخذ بعد»أبو محمد وأبو خالد عند باب البناية. والحديث كالعادة يتناول عملية البحث عن ناطور بديل للناطور المصري الذي غادر لبنان خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة. لكن الصوت يرتفع، ويمكنك أن تسمع بعض الكلمات من الرجلين:
«يعني الشباب الذين قطعوا طريق الأوزاعي هم أيضاً من تيار المستقبل»؟
«أقل ما يمكن أن يفعله شباب الأوزاعي هو قطع الطريق. هل تعرف ماذا يعني قتل شاب من آل شمص… انشالله تقتصر القصة على قطع الطريق...».
«ماذا تقصد؟ ماذا يريد الشيعة؟ ماذا يريد السيّد نصر الله»؟
«بل اسأل نفسك إلى اين أخذكم السنيورة والحريري...؟».





strong>ميثـاق شــرف في كركــول الدروز
هل يمكنكم أن تتخيّلوا شاباً من «تيار المستقبل» بين يديّ حلّاق يناصر «حزب الله»؟
وماذا إذا قرر الشابان خوض نقاش سياسي يسأل فيه أحدهما الآخر، بكل هدوء، عن مبادئ الحزب أو التيّار الذي يناصره؟
لم يحن الوقت بعد ليصبح هذا المشهد خيالياً. ولا لأن تصبح نهاية النقاش دراماتيكية. هذا على الأقل ما يقرره الشابان قبل بدء «الحوار» فيعلنان التزامهما ميثاق شرف «وضعناه نحن قبل السياسيين لأننا نريد أن نعيش في هذا البلد».
هكذا يبدأ النقاش السياسي في محل حلاقة في منطقة «كركول الدروز». قبلها كان الحلاق جهاد وحيداً في محله المزيّن بصور متعددة للسيّد حسن نصر الله. يؤكد أن هذه الصور لم تسبب له أي مشكلة مع أحد في الحي ومنهم الشاب الذي سيدخل الآن: «من تيّار المستقبل» يقول.
يحيط جهاد رقبة الزبون مازن بورقة لاصقة، يضع قطعة جلدية على كتفيه، يمسك الماكينة الكهربائية ويبدأ النقاش... والحلاقة.
يقول الأول إنه يحب السيّد لأنه «أبي وأمي وأخي وأختي وكل شيء لي في هذه الدنيا وأنا أحسد نفسي لأني أعيش في عصره». ويقول الثاني إنه يحب الرئيس الحريري لأنه «هو من أنهى الحرب وبنى البلد وضحى بحياته في سبيل لبنان».
الشابان متفقان. يطول النقاش بينهما، يرتفع الصوت وينخفض، ويخلصان إلى استحالة وقوع حرب بينهما. «زوجتي وبيت عمي وعديلي... كلّهم ينتمون إلى المذهب السنّي وإلى «تيار المستقبل»، هل أقتلهم أو يقتلونني؟» يسأل جهاد، وهو يمسك «الموسى» لوضع لمساته الأخيرة...