جوزف سماحة
بدأت المواجهة بين الرئيس الأميركي جورج بوش والكونغرس. إنها الأولى من نوعها منذ ست سنوات. العراق هو الموضوع. أو بالأحرى، الخطّة الرئاسية الجديدة هي الموضوع. يسعى مشترعون، من الحزبين، إلى إصدار قرار غير ملزم برفضها. لن يذهبوا أبعد من ذلك. لن يشلّوا يدَي الرئيس. لن يوقفوا التمويل. لا يستطيعون أصلاً، في ظل توزّع الصلاحيات، إلا التحكّم بارتفاع صوت الاحتجاج. وقعت تباينات عديدة بينهم، إلا أنها لا تلغي وجود أكثرية تريد التعبير عن الامتعاض من البيت الأبيض.
يرسم المشترعون بدقّة حدود المواجهة. والواضح أنها تقصّر عمّا يرغب فيه رأي عام أميركي أسمع صوته في الانتخابات النصفيّة وتعزّزت شكوكه، حسب الاستطلاعات، بعد الإعلان عن الخطّة الجديدة. لكن، هنا أيضاً، لا بد من الإشارة إلى أن المجتمع الأميركي نفسه لم يذهب في «فحص الضمير» إلى المدى الذي فعله في حرب فيتنام. فالنقد موجّه، أساساً، إلى إدارة الحرب، لا إلى مجمل السياسة الخارجية الأميركية. والثقة بأن «البلد منارة الأمم» لم تتزعزع تماماً. ولا نشهد بروزاً جديّاً لثقافة مضادة وجذرية تشكك في الركائز القيمية التي ينهض النظام عليها. المغامرة العراقية مرفوضة طبعاً، غير أنها مغامرة في أرض بعيدة لم ترتدّ مفاعيلها إلى الداخل كما هو مفترض ولم تنتج احتجاجاً صلباً يريد قطع الطريق عليها وعلى غيرها.
نشرت «واشنطن بوست» قبل يومين مقالاً للكاتب بول بيلار. المقال لافت. يطرح سؤالاً مركزياً: ماذا لو وجدنا في العراق أسلحة دمار شامل وتأكدت الصلة بين النظام السابق و«القاعدة»؟ يجيب بأن الإدارة كانت امتلكت، في هذه الحالة، تبريراً أكثر إقناعاً للحرب، وكانت وجدت ذريعة أقوى للدفاع عن موقفها. إلا أن بيلار يستطرد قائلاً إن ذلك لو حدث لما كان غيّر شيئاً من الواقع العراقي الحالي، حيث تسود الفوضى والفشل والحرب والموت. ليست القضية، إذاً، قضية تلاعب بالمعلومات الاستخبارية. القضية أعمق من ذلك بكثير.
يدعو الكاتب إلى الخروج من النقاش التبسيطي القائل: الدولة الفلانية تملك أسلحة دمار شامل وتعادينا، لذا يجب استخدام القوة ضدها. وهو يقصد أن الصخب الذي تشهده الولايات المتحدة حالياً، في ما يخص العراق، ليس من النوع الذي قد يحول دون تكرار المأساة نفسها، وفي إيران هذه المرّة. السؤال، في رأيه، ليس ذلك المتعلّق بالسلاح فقط، بل ذلك المتعلّق بالحرب وبما يتفرّع عنها من نتائج، وبما يستدعيه من سعي إلى استخدام البدائل الدبلوماسية والسياسية. وهو يلاحظ أن المشكلة في العراق، كما في إيران، ليست في تزوير الأجوبة، بل في تزوير الأسئلة.
المشترعون الأميركيون المعترضون على خطة بوش الجديدة أنواع. بينهم من عارض الحرب أصلاً. بينهم من أيّدها ثم شرع يتحفّظ عليها. بينهم من يؤيّدها، لكنه يخشى من أن يؤثر عدم شعبيتها على حظوظه الانتخابية في 2008. وبينهم، أيضاً، من كان معارضاً لأسلوب إدارتها ولا يزال يطالب بالمزيد من القوات.
نضع الصنف الأخير جانباً. ونطرح على أنفسنا التساؤل الآتي: كم من المعارضين الحاليين لتصعيد هذه الحرب ولاستمرارها قام بإعادة النظر الجذرية لمواقفه وخلص إلى الاستنتاجات التي تجعله معارضاً لتكرارها في مجال آخر؟ ونكتشف هنا مفارقة مذهلة تقول إن كثيرين من الذين يرفعون أصواتهم احتجاجاً على سياسة بوش العراقية يتماهون معه، تماماً، في ما يخص سياسته الإيرانية.
هيلاري كلينتون، مثلاً، أصبحت في موقع رافض لخطّة بوش. ولكن، في ما يخص إيران، تكاد تقف على يمين الرئيس. جون إدواردز رفض الحرب العراقية منذ البداية، إلا أنه صقر بين الصقور عندما يتعلّق الأمر بإيران. ويمكن إيراد أمثلة كثيرة من هذا النوع تطال شيوخاً في المجلس ونواباً وكتّاباً وصحافيين ووسائل إعلام ومراكز أبحاث، إلخ... «حمائم العراق» القدامى أو الجدد هم، في معظمهم، «صقور إيران». وفي ذلك، وحده، الدليل على محدودية المراجعة الحاصلة في الولايات المتحدة.
إن الاختبار الفعلي هو من شقّين. الأول هو الإقدام جديّاً على تكبيل الإدارة في العراق. الثاني هو قطع الطريق على مواجهة عسكرية محتملة مع إيران. وربما كان الشقّ الثاني هو الأسهل قانونياً ودستورياً.
ليس بوش وحده من رمى تقرير بيكر ـــ هاملتون في سلّة المهملات. عاونه في ذلك كثيرون، وتميّز اللوبي المؤيّد لإسرائيل بنشاط خاص في هذا المجال.
يبقى أن هناك من يحاول، تأسيساً على دروس حرب دائرة لا فقط على ذكريات فيتنام، منع حرب جديدة. إلا أن هذا الجهد يبدو أقلّ قدرة على مواجهة عمليات التحضير السياسي والإعلامي والعسكري والدولي من أجل توسيع العدوان. نسجّل لهذا التحضير نجاحاً جزئياً في استمالة قوى إقليمية، غير إسرائيل، إليه.