نقولا ناصيف
سمع مسؤولون في المعارضة من ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في لبنان غير بيدرسون، في الأيام الأخيرة، تأكيداً على ضرورة إقرار مشروع المحكمة ذات الطابع الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، واعتبره مطلباً رئيسياً للمنظمة الدولية يلح عليه الأمين العام بان كي مون. لكنه لفت إلى الحاجة لإقراره في المؤسسات الرسمية مع مراعاة الأصول الدستورية اللبنانية. وللمرة الأولى استرعى انتباه محدثيه تشديده على أن تعطيل إقرار مشروع المحكمة ربما اضطر مجلس الأمن إلى وضع اليد على هذا الإقرار تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، بعدما كان قد استبعد هذا الاحتمال. وفي لقاءات أخرى، ربط بيدرسون بين تصعيد المعارضة في الشارع وإدراج الفصل السابع في مشروع المحكمة، في ما بدا تهديداً ضمنياً ودعوة إلى التصرّف غير الاستفزازي لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة.
وإذ ميّز أمام هؤلاء المسؤولين في المعارضة بين موقف الأمين العام للأمم المتحدة باستعجال إنجاز المشروع كهدف في ذاته لارتباطه بقرارات سابقة اتخذها مجلس الأمن يقتضي تطبيقها، وبين الموقفين الأميركي والفرنسي القائلين إنهما لن يسمحا لسوريا بتعطيل إبصار المحكمة الدولية النور، طرح بيدرسون أمام محدثيه أسئلة عن السبل التي يُعتقد أنها ممكنة، من ضمن الأصول الدستورية النافذة في لبنان، التي تتيح إتمام الآلية القانونية للمشروع بتوقيعه من جانب رئيس الجمهورية ومناقشته في مجلس النواب والتصويت عليه.
كان يتساءل أيضاً عن احتمال دعوة رئيس المجلس نبيه بري المجلس إلى الانعقاد.
لم تقدم الردود التي أدلى بها محدثوه إجابات شافية لبيدرسون. وبعض هؤلاء لم يفصح له عن معطيات يتصل عدد منها بموقف المعارضة، وأبرزها:
1 ــــــ أن بري لن يوجّه دعوة إلى المجلس للانعقاد في العقد العادي الأول، منتصف الشهر المقبل، للأسباب نفسها التي حالت دون التئام البرلمان حتى الآن لمناقشة مشروع المحكمة الدولية، وتقترن هذه الأسباب بعقبتين: أولاهما ضرورة إحالة مشروع القانون وفق الأصول الدستورية بمرسوم يوقعه الرئيس إميل لحود، وثانيتهما تمسّك بري بموقفه من حكومة السنيورة، إذ يعتبرها غير دستورية.
مؤدى ذلك أن مجلس النواب مرشح لئلا يجتمع طيلة العقد العادي الأول حتى نهاية شهر أيار، في ظل تعليق التسوية السياسية بين الغالبية الحاكمة والمعارضة. وما لم يقدم المجتمع الدولي على خطوة وقائية لإنقاذ مشروع المحكمة بوضع اليد عليه وإقراره على أنه محكمة محض دولية تقع أحكامها تحت الفصل السابع، فإن المشروع في صيغته الحالية قد يبقى في أدراج الحكومة اللبنانية حتى نهاية ولاية رئيس الجمهورية في تشرين الثاني المقبل.
2 ــــــ تعامل المعارضة مع مشروع المحكمة على أنه مشكلة في ذاتها. وقد باتت تجهر أكثر من أي وقت مضى باعتراضها الجوهري عليه. وخلافاً لموقفها منه في الأشهر الأخيرة عندما عزت الخلاف مع قوى 14 آذار إلى أزمة مشاركة في الحكومة دونما ربطها بملف المحكمة، وأكد أركانها في أكثر من مناسبة استعدادهم لإمرار مشروع المحكمة إذا تحققت المشاركة المطلوبة في حكومة الوحدة الوطنية، تدرّجت المعارضة في تصعيد موقفها العلني المتحفظ على المحكمة تبعاً للصيغة التي كانت قد أقرتها حكومة السنيورة في 13 تشرين الثاني الفائت. ويبدو أنها ليست في وارد كشف ملاحظاتها والتعديلات التي تقترحها على المشروع قبل أن تقرّ الغالبية مبدأ تأليف اللجنة المشتركة لقراءة المشروع التي لحظتها خطة الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى. هذا إذا تأكد فعلاً أن فريق الغالبية أيد تأليف اللجنة المشتركة، أو أنه في صدد التساهل لتعديل بعض أحكام مشروع المحكمة.
3 ــــــ لا تخجل المعارضة من إبراز تطابق موقفها مع الموقف الأخير لدمشق من مشروع المحكمة، الذي ينادي بإقرار المشروع بعد إنجاز التحقيق الدولي. والواضح أن الموقف السوري المستجد من المحكمة يمثل مناورة ذكية تحاول دمشق من خلالها تقليل إرباكها أمام مجلس الأمن من موضوع المحكمة. فهي لا تقول ــــــ وقد لا يكون في وسعها أن تقول ــــــ إنها ترفض المحكمة تفادياً لإحراجها أمام المجتمع الدولي، كذلك أمام حليفتها روسيا التي تدعم إنشاء محكمة دولية، ولا تريد في المقابل تأييداً غير مشروط لتأليفها لئلا تصبح المحكمة سيفاً سياسياً مصلتاً على عنق نظامها لآجال طويلة. من جهة أخرى تتسلح دمشق بحجة أن لا قرار ظنياً صدر حتى الآن عن التحقيق الدولي في اغتيال الرئيس السابق للحكومة اللبنانية يوجّه أصابع الاتهام إلى مسؤولين سوريين بضلوعهم في الجريمة، حتى تسلم سوريا سلفاً بالموافقة على إنشاء المحكمة قبل استكمال التحقيق الدولي. وهذا الموقف أبلغته دمشق إلى الرياض وطهران، وإلى حلفائها اللبنانيين غير البعيدين عن تأييد وجهة النظر هذه. تعاطفت معه إيران ونفّر السعودية.
4 ــــــ تعتقد المعارضة بالحاجة إلى إمرار الذكرى الثانية لاغتيال الحريري هادئة، تعبّر من خلالها عن تضامن عاطفي في منأى عن الانقسام السياسي الحاد. الأمر الذي ستمثله دعوتها أنصارها إلى الاحتشاد في 14 شباط من غير إضفاء أي طابع استفزازي على المناسبة. لكنها ترى أن خياراتها في مواجهة حكومة السنيورة وقوى 14 آذار أضحت ضيقة ومربكة، وقد تكون خطرة، وبات على أركانها في الأسبوعين المقبلين إجراء تقويم عام استناداً إلى أحد ثلاثة خيارات مكلفة يقتضي أن تجازف بأحدها، وقد وضعها أمامها فريق الغالبية:
ــــــ تسليمها بإخفاقها الكامل في خطة إسقاط حكومة السنيورة في الشارع، واتخاذها تالياً قرار الانسحاب التدريجي منه، والاعتراف بعجزها عن مواجهة قوى 14 آذار. مفاد ذلك تآكل المعارضة وتفكك قواها وخروجها الفعلي من دائرة القرار الرسمي والسلطة.
ــــــ موافقتها غير المشروطة على تسوية الأمين العام للجامعة العربية، بإقرار مشروع المحكمة كما هو وتأليف حكومة 19 + 10 + 1، لا يكون فيها للغالبية ثلثا المقاعد ولا للمعارضة الثلث زائداً واحداً. يعني ذلك تراجع المعارضة عن الشروط التي ربطتها بالخروج من الشارع. وتكون عندئذ قد خسرت معركتها السياسية، وعادت إلى حكومة السنيورة منهكة.
ــــــ تصعيد المواجهة في الشارع والعودة إلى ما حدث في إضراب 23 كانون الثاني الفائت، الأمر الذي يقود إلى حرب شوارع سنية ـــــ شيعية ومسيحية ـــــ مسيحية لفرض ميزان قوى جديد في البلاد. ومع معرفة مسؤولين بارزين في المعارضة أن الكلفة السياسية لحرب شوارع مفتوحة يتكبدها الطرفان المتنازعان، فإن العبرة التي استخلصوها من حوادث 25 كانون الثاني أبرزت لهم مغزى رد فعل فريق قوى 14 آذار في ذلك اليوم، وهو استعداده للنزول إلى الشارع والدفاع بالقوة، عن شرعية حكومة السنيورة وبقائه في السلطة، وأنه مهيأ أيضاً لمنازلة الشارع بشارع، والسلاح بالسلاح من خلال ثلاث قوى تبدو متأهبة لهذا الخيار، وقدمت عرض عضلات يومي 23 كانون الثاني و25 منه: القوات اللبنانية في المناطق المسيحية، والحزب التقدمي الاشتراكي وتيار المستقبل في الأحياء المختلطة السنية ــــــ الشيعية.