جوزف سماحة
الدعوة التي وجّهتها السعودية إلى قيادتي «حماس» و«فتح» لعقد «لقاء مكّة» تعني، ضمناً، أن المملكة مستعدّة لتعريض نفسها لاختبار.
تندرج الدعوة في سياق حيوية سعودية مستجدّة تجعلها تغادر تحفّظها التقليدي وتقبل التقدم إلى الواجهة. لا يعني ذلك أن الرياض لم تكن في السابق مؤثّرة أو صانعة أحداث. لكنه يعني أنها تجد نفسها، في ظل التطورات العربية والإقليمية، معنيّة بزيادة تدخلها وخاصة في ظل استعدادها لاستضافة القمة العربية المقبلة.
لا شك في أن المسؤولية النهائية عن النجاح أو الفشل تقع على عاتق الفلسطينيين. إلا أن ذلك لن يوفّر المملكة في الحالتين. إن سياسة «تركناهم يحلّون مشاكلهم» ليست حلاً للمشكلة. فالنتيجة التي سيتم التوصّل إليها توفّر أساساً صالحاً لإطلاق حكم على الوزن الذي تريده القيادة السعودية لبلادها.
الفشل احتمال وارد طبعاً برغم التعهّدات بالعكس. وفي حال حصوله يمكن لوم محمود عباس وخالد مشعل. غير أنه سيكون مشروعاً أن نكتشف فيه ضعفاً سعودياً في التأثير على مجريات الأحداث. وهو ضعف يزداد وضوحاً مع إدراك حاجة الطرفين الفلسطينيين إلى التسوية في ما بينهما، والجهود السابقة المبذولة على هذا الصعيد، والنجاح في تذليل عقد كثيرة، والقليل مما هو باقٍ للحل. يمكن السعودية أن تعلن أنها أدّت واجبها، ويمكن من يشاء أن يرد أن الأمر لم يكن كافياً.
التوصّل إلى اتفاق على حكومة «وحدة وطنية» وارد أيضاً. وهو، قطعاً، جيد. غير أنه سيكون مطلوباً، أمام هذا الاحتمال، التدقيق في المضمون البرنامجي لهذا الاتفاق ومراقبة تنفيذه. يجب تعريض برنامج الاتفاق لفحص دقيق والسعي إلى معرفة الكفّة التي حاولت المملكة تغليبها. وإذا كان معروفاً أن «فتح» أقرب إلى الرياض من ناحية الحساسية السياسية فإن «حماس» ذات وزن تمثيلي مؤكد وهو وزن ناجم عن معطيات كثيرة بينها انسداد أي أفق للتسوية كما عبّر عنها النظام العربي الرسمي والسعودية في قلبه.
إذا خرج «لقاء مكّة» بتوافق على تأليف حكومة وحدة وطنية فسيُنسب إلى المملكة أنها حقّقت إنجازاً. إلا أنه إنجاز محدود يفرض عليها التزامات لاحقة. ولعلّ أبرز هذه الالتزامات السعي إلى رفع الحصار عن الشعب الفلسطيني من دون أن يكون ذلك مسبوقاً بتسليم الأوراق التفاوضية كلها أو بالاضطرار إلى دفع «حماس» لتصبح نوعاً من «فتح المؤمنة». يمكن رفع الحصار أن يكون قراراً سيادياً سعودياً (كان يجب عليه أن يكون كذلك) يجري تعريبه. أضف إلى ذلك أن هناك قرارات بالخرق متّخذة ولا تزال حبراً على ورق. وسيكون من واجب المملكة، عطفاً على نجاح محتمل للقاء، أن تدفع الاتحاد الأوروبي إلى تغيير الآلية المعتمدة حالياً لإيصال المساعدات. أخيراً لن يكون في وسعها أن تتجاهل استمرار الحصار من الجانبين الأميركي والإسرائيلي.
رفع الحصار، إن تحقّق، يعني أن السعودية نجحت في إنجاز جدي. تجنّب الاقتتال مفيد ومطلوب. حكومة الوحدة الوطنية أمر إيجابي. وقف المعاناة الشعبية الفلسطينية خطوة في الاتجاه الصحيح... لكن، بعد ذلك كله، ستكون المشكلة قائمة: إنها مشكلة الاحتلال والتوسّع وزيادة الاستيطان وتوسيع المناطق «المأسورة» بفعل الجدار، وتهويد القدس... بكلام آخر، إذا حقّق «اللقاء» أقصى المنتظر منه، وساعدت السعودية في تثمير هذه الخطوات، فسنكون أمام أرض فلسطينية تحت السيادة الإسرائيلية وأمام شعب فلسطيني تحت الاحتلال. ومن العدل التأكيد أن هذا هو المحكّ الفعلي للسعودية والعرب.
تملك الرياض وجهة نظر في كيفية تسوية النزاع العربي ــــ الإسرائيلي (كل مواطن عربي عادي يملك، أيضاً، وجهة نظر في الموضوع). لكنها لا تملك سياسة محدّدة ولا استراتيجية واضحة في هذا المجال. لم يكن هذا مقبولاً في السابق ولا هو مقبول اليوم. إن أقل ما يمكن المطالبة به هو الإعلان عن «خريطة طريق» توصل إلى هدف، أو، على الأقل، توحي بأن النظام العربي سيقوم بالحد الأدنى من واجباته سعياً وراء هذه الغاية.
لا بديل من قدر عالٍ من الوضوح السعودي. يعني ذلك القول: هذا هو عرضنا للتسوية، وهذا هو بديلنا منه، وهذه هي وسائل الضغط التي سنستخدمها من أجل الإقناع بالعرض أو التصرّف في حال الرفض. وكل ما هو أقل من ذلك ينتمي إلى عالم المناشدة لا السياسة، وليس جديراً بسلطات حاكمة، ولا، خاصة، بمن يستشعر في نفسه انتداباً لدور إقليمي.
يعني ما تقدم أن مقياس نجاح السعودية في مسعاها ليس عدم انحيازها إلى هذه الجهة الفلسطينية أو تلك بل انحيازها إلى الفلسطينيين في الجهد الهائل الذي يبذلونه للتحرّر من الاحتلال. بعبارة أوضح إن مقياس النجاح هو في مدى إقدام السعودية على إبداء الاستعداد لمواجهة متدرّجة مع القوى والدول التي تحرم الشعب الفلسطيني حقوقه وعلى رأس هذه الدول الولايات المتحدة الأميركية.
يُعقد «لقاء مكّة» في لحظة أميركية دقيقة. فالولايات المتحدة تعلن أنها لا تمانع في تحريك المفاوضات شرط أن يكون ذلك تكتيكاً يخدم الوجهة العدوانية العامة على المنطقة، ويؤمّن قيام نظام إقليمي جديد يحمي احتلال العراق والتوسعيّة الإسرائيلية ويثير شقاقاً عربياً ــــ عربياً، وعربياً ــــ إقليمياً، ويهدّد بتصدّعات داخلية ضمن دول عديدة.
إذا كانت المملكة تتحرّك، حصراً، في هذا الهامش الذي تتيحه الولايات المتحدة فإنها لن تستطيع فعل الكثير. قد تستطيع الحؤول دون المزيد من التدهور في فلسطين أو لبنان، لكن ذلك لا يكفي. لا بد من التعرّض لمتن السياسة الأميركية الإجمالية في المنطقة، والاستفادة من فترة الضعف التي تمر فيها الإدارة الحالية، من أجل توحيد القوى (لا تقسيمها) الساعية إلى تسويات عادلة.
ليس أمامنا ما ينبئ أن الرياض حسمت أمرها على هذا الصعيد. لكن لا بأس من أن ننتظر حتى نرى مدركين، سلفاً، أن التحرّك ضمن هذا الهامش ليس عديم الجدوى بل هو خطير فعلاً.