عرفات حجازي
عندما دعا رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى مؤتمر الحوار الوطني في الثاني من آذار الماضي حرص على أن يضمّن جدول أعمال المؤتمر بنداً أوليّاً ورئيسياً وهو إنشاء محكمة ذات طابع دولي لكشف حقيقة قَتَلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، ولم تستغرق مناقشة هذا البند على طاولة الحوار سوى دقائق قليلة حيث أقر بالإجماع، إذ ليس في لبنان من اعترض أو وقف ضد إنشاء محكمة تلاحق المرتكبين والمتورطين في الجرائم التي هزّت لبنان بدءاً باغتيال الرئيس الحريري وانتهاءً باغتيال الوزير بيار الجميل.
ولم يكن موضوع المحكمة الدولية ونظامها الأساس الذي استغرق زهاء سبعة أشهر من النقاشات المعمّقة داخل الأمم المتحدة وخضع لكثير من التعديلات والشطب والإضافات ليثير الكثير من القلق في أوساط المعارضة اللبنانية لو أن الحكومة أفسحت في المجال أمام الوزراء لمناقشته وإبداء الرأي فيه، لكن الذي حصل أن الحكومة حاولت تهريب المشروع وامتنعت عن إعطاء مهلة يومين أو ثلاثة للوزراء كي يدرسوا في بنوده ويضعوا ملاحظاتهم عليه، ما ثبّت مخاوف «حزب الله» وحركة «أمل» من أن يكون الهدف من وراء منع النقاش في بنود المحكمة هو الدفع بهذه القضية إلى مجلس الامن مجدداً ليضع يده عليها كي يقرّها تحت البند السابع، وإذذاك تجري تصفية الحسابات مع الخصوم السياسيين محليين وإقليميين. وممّا كرّس هذا الاعتقاد أن هناك من يعمل داخل السلطة على دفع البلاد ورهنها للإملاءات والوصايات الخارجية من خلال ضرب المؤسسات الدستورية وتقويضها وإقحام مجلس الأمن والأمم المتحدة في شؤون داخلية، كما ظهر من الرسائل التي بعث بها رئيس الحكومة إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة مستجدياً وضع اليد على البلد. ومع أن الأمم المتحدة وقّعت مسوّدة اتفاقية إنشاء المحكمة الدولية إلا أنها دعت السلطات اللبنانية إلى إقرارها في الأطر الدستورية. ولكن في ظل تعطّل المؤسسات الدستورية وتعذّر إقرار المحكمة في مجلس النواب وتعذّر انعقاده ما دامت الأزمة الحكومية الدستورية على حالها وتفادياً للجوء مجلس الأمن إلى إقرارها تحت البند السابع على ما في الأمر من صعوبات، وفي ظل احتمال أن تلجأ أطراف إلى ممارسة الفيتو، فإن الأنظار تتّجه مجدداً إلى الوساطة العربية التي بدأها عمرو موسى وتوقفت بعد اصطدامها بعقدتي الحل الذي طرحه للخروج من الأزمة والقائم على قاعدة التوازن والتوازي بين إقرار المحكمة وقيام حكومة الوحدة الوطنية. على أن عودة موسى إلى بيروت لم تتأكد بعد والرجل لم يحسم أمرها علماً بأن الحصيلة التي عاد بها إلى القاهرة موفده هشام يوسف لم تكن مشجعة، فالمواقف المتصلبة على حالها وقنوات الاتصال بين القيادات ما زالت مقفلة والسجالات محتدمة بين الرئاسات، لكن مصادر عربية مطلعة أكدت لـ«الأخبار» أن موسى وقف من القيادة الروسية على معطيات تسمح بإعطاء انطباعات متفائلة عن إمكانية نجاح وساطته على عكس ما توحيه الأجواء الداخلية المضطربة في لبنان. وتتحدث هذه المصادر عن أن الروس يعملون على تهيئة البيئة اللبنانية المناسبة للحل الداخلي وأنهم يسعون إلى إقرار المحكمة بإجماع لبناني بعد إدخال تعديلات على بعض بنود نظامها الداخلي التي تثير بعض الالتباسات لدى أطراف إقليمية وداخلية.
وموسكو التي كانت مركز ثقل في المشاورات والاتصالات الإقليمية والدولية والمُحاور شبه الوحيد لطهران ودمشق أبلغت موسى أن بإمكانه أن يبلور أفكاراً جديدة ويضيف بعض التحسينات على سلّة المقترحات التي وضعها للحل، ولا سيما ما يتعلق بالمحكمة التي دار سجال بشأنها داخلياً ودولياً بخصوص دورها وتوقيت قيامها ومهمتها. وبدا من خلال بعض التسريبات أن روسيا غير متحمسة للاستعجال في إنشاء المحكمة لأن المهم في نظرها أن لا تكون عملية الإنشاء عامل تفجير للأوضاع والانقسامات في لبنان، مع العلم أن لا شيء مدرجاً في جدول أعمالها لتنظر فيه لأن التحقيقات في الجريمة لم تنته بعد. ولا تزال موسكو ترفض اللجوء إلى الفصل السابع لإنشاء المحكمة وتعدّ مثل هذه الخطوة تخريباً للصيغة اللبنانية ومن الأفضل إنجاز مسارها اللبناني عبر مبادرة موسى وبالتفاهم بين اللبنانيين.
ويتردد في الأروقة الدبلوماسية أن حلاً لموضوع المحكمة الدولية سيبصر النور قريباً وأن موسكو التي سبق وأكدت على وجوب تحديد هوية الدول التي لم تتعاون مع التحقيق الدولي ثم تراجعت عن طلبها قد تكون توصلت إلى تفاهم مع الدول الكبرى على تصور مبدئي لحل هذه العقدة على أساس إقرار إنشاء المحكمة ونظامها في المؤسسات الدستورية اللبنانية على أن يتم ارجاء إنشاء المحكمة وتعيين قضاتها إلى ما بعد الانتهاء من التحقيق الدولي وإصدار القرار الظني في القضية.
ولعل إصرار فريق السلطة على التأكيد أن عودة موسى إلى بيروت باتت محسومة يؤشر إلى أن معطيات جديدة تكوّنت وأن هذا الفريق واثق بإمكان نجاح مبادرة الوسيط العربي هذه المرة.