كارل كوسا
هنَّ أنفسهنَّ اللواتي نقلن منازلهنَّ منذ سنتين إلى ركن في حديقة «جبران خليل جبران» المقابلة لمبنى «الإسكوا». إنّهنّ أُمّهات مفقودي الحرب الأهليّة المنصرمة وأخواتهم. لم يغبنَ أصلاً عن قضية باتت مرآتهم يوماً. إلّا أن «أملاً» من نوع آخر كُنَّ قد باشرن ممارسته، بعد أن أعاد مركز الخيام لتأهيل ضحايا التعذيب، أمس، اعتصام «أُمّهات الخميس». فاحتشد ذوو المفقودين وأقاربهم أمام مقرّ اللجنة الدولية للصليب الأحمر الكائن في منطقة «أبو طالب» في الحمرا، من أجل «ضغط دوليّ بعد أن صُمَّت آذان الداخللا نريد مفقودين جُدداً» كانت تلك صرختهنَّ المدوّية. لا شكَّ أنّ إشارات الحرب التي شهدنا إرهاصاتها، أخيراً، قضّت مضاجعهنّ وعادت بهنّ إلى زمن يحاولن السباحة عكسه، عبثاً، كما عبّرت أكثر من فاقِدةٍ لجزء أساس منها.
محاولة جديدة، فربّما.. من يدري؟. وخصوصاً أنّ الأمين العام لمركز الخيام لتأهيل ضحايا التعذيب محمّد صفا كان قد عدّ اللجنة الدولية للصليب الأحمر «مؤسّسة إنسانية مُحايدة، لنطلق الصرخة باسم أُمّهات الخميس». كما طالب صفا، في كلمة ألقاها في المعتصمين، بكشف «الحقيقة المنسيَّة» بدلاً من «إنصاف الجلّادين والخاطفين واتّهامنا بأنّنا ننكأ الجراح ونعاود فتح ملفّات قديمة تُعيد أجواء الحرب!». وحثّ «كلّ الأُمّهات المكتويات بنار الشوق إلى أحبّائهنّ» على «الخروج عن صمتهنّ» و«عدم السماح بتحويل أبنائهن وقوداً لمصالح سياسيّة وطائفيّة». وكي «لا يزداد فرح أُمراء الحرب بتكاثر أعداد أُمّهات المفقودين» خاطب صفا اللبنانيّين «تعالوا نقف صفّاً واحداً ضدّ تمزيقنا بالطائفيّة والقنص» إضافةً إلى واجب «الدفاع عن رغيف الخبز وحبّة الدواء». بدوره، تضامن ممثّل نقابة الصحافة مع الأمّهات، وأسفت مريم السعيّدي (ممثلة أهالي المفقودين) لحال المسؤولين الذين «لم ينسوا فقط أبناءنا بل تناسوا أنّهم من هذا الوطن». وشاركها غازي عاد (من سوليد) الهمّ معتبراً أنّ «الوضع السياسي العامّ لا يشجّع على حلّ المشكلات»، آملاً «ألّا نقع في حرب أخرى».
أهالي المفقودين لم ييأسوا من احتضان أبنائهم صورةً حيّة كادت تمزّقها «مخالب» اللامبالاة لولا سعيهم المتواصل لإنعاش الذاكرة الجماعيّة من الأُفول. تتعدّد روايات ذوي المفقودين، فمنهم من يعتقد أنّ أبناءهم في سوريا، وآخرون.. في إسرائيل. وبما أنّ السواد الأعظم منهم لم تصله أيّ رسالة أو خبر عن «الغالي» منذ سنوات عديدة، فخير عبارة تجسّد حالة الضياع كانت «الله أعلم وينن». «وينن» علامات استفهام متعجّبة تقمّصت شعار حملتهم. وتؤكّد أُخت المفقود علي حجازي (فُقد عام 1976بعد «السبت الأسود» بأسبوع) أن «أخي لا علاقة له بالأحزاب والسلاح». رغم ذلك «قُطِف منّا على أيّام الكتائب والقوّات». لذا فهي ترجو اللبنانيين «أحبوا بعضكم وتآزروا منعاً لتكرار المأساة». أمين شعيب، رقم آخر من ملفّات الذاكرة، اعتقل بحسب أخته ليلى عام 76 في عينطورة. لديها إثباتات أنّه ما زال حيّاً. وتلوم الدولة اللبنانية على تقصيرها «في متابعة قضيّتنا جدّياً». الفلسطيني بدوره، لم ينجُ من التغييب. فيروي أخو المفقود عماد عبد الله أنّ أخاه «خُطف في صيدا لأنّه كان يعمل مع أبو عمّار». وصلته رسالتان منه، «كُتِبتا بأعواد الكبريت» تسلّم الأخيرة منهما عام 2003. يقول في إحداههن «أرجوكم ساعدوني أنا مريض ومتعب نفسيّاً.. خلّصوني». طلّاب مصريّون أيضاً نالوا حصّتهم من «هوايات الحرب المدمّرة»، فها هو أخو حمادة إبراهيم خالد، لا يزال مقيماً في لبنان منذ منتصف السبعينيات لملاحقة «قضيّة أخي ورفيقه» الطالبين في جامعة بيروت العربيّة. كان حمادة يجول في بلدان الشرق والغرب من أجل علاج «ديسك» مزمن شلّ حياته، حتّى طلب منه يوماً إرسال إفادة إتمام تحصيله المدرسي ليتمكّن من التسجيل في الجامعة. وكان أن فُقد، كما تزعم رواية أخي حمادة، على الحدود اللبنانيّة ــ السوريّة. لأمّ أحمد الهرباوي الجنوبية حكاية أُخرى: «ابني البيروتي خطف أمام عينيّ في ساحة ساسين ونحن في طريقنا إلى الغربيّة». لم يبق لها منه إلّا قميص كان يرتديه، بعد أن هُجّروا من النبعة، فـ«وديّت القميص على الحجّ قلت بركي الله بيشفق عليّي». يؤلمها أن ترى الميليشيات التي خطفت ابنها محتفظة بالذهنيّة نفسها. صورة مجتزأة لرأس أحمد هي كلّ ما وصلها عنه وهو على متن باخرة تتجّه صوب «إسرائيل». «سرقوه من قلبي» جملة تخطّها دموعها الملتهبة. وصّت الحاجّة أم أحمد ابنتها سوسن «ما بسامحك..حتّى لو بيطلّقك جوزك بدِّك تّابعي المسيرة من بعدي».
التعويل على «الصليب الأحمر الدوليّ» خيط أمل الأُمّهات الأخير. فهل تخذلهنّ لجنته الدوليّة أم أنّ الفجر قريب؟