نقولا ناصيف
قبل أيام قال الرئيس إميل لحود إنه لن يسلّم السلطة بعد نهاية ولايته إلى حكومة «فاقدة الشرعية الدستورية»، رابطاً الانتقال الدستوري بتسوية بين الغالبية والمعارضة، وأكد الاستمرار في منصبه إلى أن تتألف حكومة وحدة وطنية.
ما أدلى به رئيس الجمهورية وإصراره على بقائه في الرئاسة، الذي لا سابقة دستورية وسياسية له، يشيران إلى المعطيات الآتية:
1 ـــــ دخوله على خط النزاع القائم بين الغالبية الحاكمة والمعارضة، ودفع الاستحقاق الرئاسي المقبل إلى واجهة الأحداث قبل أكثر من سبعة أشهر على بدء المهلة الدستورية لانتخاب خلف له في 24 أيلول المقبل. وهو سيكون أكثر المعنيين بالاستحقاق نظراً إلى دوره في إجراء الانتقال الدستوري من عهد إلى آخر، خلال التسليم والتسلّم. بذلك يعيد ترتيب الأولويات المتصلة بالتشنج السياسي القائم، ويجعل الاستحقاق الرئاسي، لا المحكمة ذات الطابع الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، طاحونة المرحلة المقبلة.
2 ـــــ يرسم سقفاً سياسياً للطريقة التي يريد أن يقارب بها انتخابات الرئاسة، معزّزاً بذلك الأوراق السياسية التي تملكها المعارضة في هذا الموضوع في المواجهة مع الغالبية. ومن غير أن يميّز ظاهراً موقفه عن حلفائه في المعارضة، يضع مفتاح قصر بعبدا في بئره، ويتصرّف على أنه فريق أساسي في إدارة هذا الاستحقاق. على نحو كهذا يسعى لحود إلى إخراج انتخابات الرئاسة من نطاقها الدستوري بأن يحيلها مشكلة سياسية تسوّى بحل سياسي، لا بالتزام أحكام المادة 49 من الدستور.
وفي واقع الحال، ليس في الدستور قيود ترتبط بانتهاء ولاية رئيس الجمهورية، تمكّن الرئيس من الاجتهاد في البقاء بحكم الاستمرار، وخلافاً لحال استقالة رئيس الجمهورية (كالتي أقدم عليها الرئيس بشارة الخوري عام 1952 والرئيس فؤاد شهاب عام 1960 والرئيس الياس سركيس عام 1978) التي توجب توجيهها إلى رئيس المجلس لأخذ العلم بها لا غير، إلى أن يتراجع عنها الرئيس المستقيل أو يصرّ عليها، فإن الرئيس الموشكة ولايته على الانقضاء ليس له، في الدقيقة الأخيرة منها، إلا أن يجمع حقائبه ويغادر القصر الجمهوري غير مسكون بهاجس فراغ دستوري تداركته المادة 62 من الدستور.
عندما غادر الرئاسة في 23 أيلول 1988 في ظل تعذر انتخاب خلف له وفراغ حكومي ناجم عن وجود حكومة غير دستورية بعد اغتيال رئيسها الرئيس رشيد كرامي في الأول من حزيران 1986 وصار إلى تعويمها على أنها حكومة أمر واقع برئاسة الوزير آنذاك سليم الحص، لم يقل الرئيس أمين الجميل باستمرار ولايته في ظل «حكومة فاقدة الشرعية». فاستعاد سابقة الشيخ بشارة عام 1952 بتأليف حكومة انتقالية. وغادر قبيل منتصف الليل قصر بعبدا.
3 ـــــ يميّز لحود بين تمسكه بالسلطة وانتخاب رئيس جديد للجمهورية. وإذ يعرف أنه ليس طرفاً مباشراً في الآلية الدستورية لانتخاب الرئيس المقبل وليس في وسعه عرقلة الاستحقاق ولا مكان له في التسوية المرتقبة، ينبّه قوى 14 آذار إلى مغزى تشبثه بمنصبه لتعطيل الانتقال الدستوري. ولعلّ المقصود بذلك إقدام الغالبية على انتخاب رئيس جديد للجمهورية، في اليوم العاشر الذي يسبق انتهاء الولاية وهو اليوم الأخير من المهلة الدستورية، بمعزل عن اتفاق مسبق مع المعارضة، مما يضع البلاد في مأزق دستوري خطير: بين رئيس انتهت ولايته ويرفض أن يغادر، ورئيس منتخب عاجز عن تسلّم سلطاته الدستورية من السلف ما لم يقسم اليمين (في جلسة يدعو إليها رئيس المجلس). ويعرف لحود أيضاً، في حسابات تشبثه بمنصبه، أن ليس ثمة مَن في وسعه محلياً أو اقليمياً أو دولياً تكرار سابقة الجيش السوري في 13 تشرين الأول 1990 لإطاحته وإرغامه على ترك القصر بالقوة. ويعرف أيضاً وأيضاً أن طعنه في انتخابات رئاسية تستثني المعارضة ـــــ وأخصها الشيعة ـــــ من المشاركة فيها سيحمل هذه على التضامن معه في طعنه هذا. عندئذ تدخل البلاد في تصدّع وطني وطائفي بالغ التعقيد، شبيه بالحقبة التي شهدها اللبنانيون بين 5 تشرين الثاني 1989 و13 تشرين الأول 1990: رئيسان أحدهما يحظى باعتراف عربي ودولي، وآخر مستمر في منصبه بحكم أمر واقع فرضه التوازن السياسي القائم بين غالبية ومعارضة، ولا أحد منهما يستطيع حسم الصراع لمصلحته.
جملة المعطيات هذه أدخلت لحود طرفاً على خط السجال السياسي بفتح معركة رئاسة الجمهورية ـــ وإن من طرف واحد حتى الآن على الأقل ـــــ نتيجة النزاع الناشب بين الغالبية والمعارضة. تستتبع ذلك ملاحظتان:
أولاهما، أن المعارضة تبدو، في نظر الغالبية وحتى إشعار آخر، عاجزة عن إسقاط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة عنوةً بشهادة ما ترتب على إضراب 23 كانون الثاني وردود الفعل عليه في 25 كانون الثاني. تالياً تهدّد العودة إلى مثل هذا الخيار بنشوب حرب شوارع سنية ـــــ شيعية، ومسيحية ـــــ مسيحية، يتقاسم الطرفان كلفتها الباهظة، من غير أن يكون أحدهما واثقاً بالتغلب على الشارع الآخر.
ثانيتهما، رهان الغالبية على عامل الوقت للوصول إلى الاستحقاق الرئاسي في أيلول، وحسم الصراع بإدارتها وحدها انتخابات رئاسة الجمهورية على نحو يحمل النواب الـ70 الذي يكوّنون هذه الغالبية على الاجتماع خارج ساحة النجمة في اليوم العاشر الذي يسبق نهاية ولاية لحود، ودونما حاجة إلى دعوة من رئيس المجلس، وانتخاب رئيس جديد للجمهورية بنصاب الأكثرية المطلقة من الدورة الثانية للاقتراع، وتالياً فرض هذه الغالبية اجتهادها في تفسير المادة 49 من الدستور، بتبنيها النصاب القانوني العادي وهو النصف زائد واحداً، لا ثلثا أعضاء مجلس النواب.
انطلاقاً من ذلك، في شكل مشابه لحال حكومة السنيورة، يحوز الرئيس الجديد، الخارج من صفوف قوى 14 آذار، اعتراف مجلس الأمن والدول الكبرى والمجموعتين الأوروبية والعربية بشرعيته الدستورية، فتعوّض الشرعية الدولية شكوك قوى المعارضة. يصبح الرئيس المنتخب أمراً واقعاً مفروضاً على هذه القوى، وفي صلب أي تسوية سياسية تنشأ في ما بعد. ذلك ما حصل مع انتخاب الرئيس رينه معوض في 5 تشرين الثاني 1989 بعد ساعات على قرار حكومة العماد ميشال عون حل مجلس النواب. الأمر الذي يشير إلى فاعلية اعتراف المجتمع الدولي بالرئيس الجديد إذ يرجّح شرعيته الدستورية أو ينتزعها.
ولعلّ في سابقة القرار 1559، ومن ثم مقاطعة معظم الدول الكبرى الرئيس الحالي بعد تمديد ولايته في 3 أيلول 2004، ما يعزّز هذا الجانب من خيار يكون في الغالب مكلفاً في الداخل.
إنها، إذاً، الخيارات التي لا مثيل لها في تاريخ لبنان، إذ تجعل الدستور أشبه بجثة على قارعة الطريق.