جان عزيز
قد يكون رفيق الحريري من السياسيين الراحلين القلائل، الذين تمرّ ذكراهم من دون أي استعادة للّحظات الأخيرة من حياتهم.
لأسباب مجهولة، أو ربما معلومة مستورة، تستعاد ذكرى جريمة 14 شباط 2005، من دون أي استعادة لكلمات ضحاياها، قبيل سقوطهم. قد يقول البعض إن الأمر معزوّ إلى صعوبة تلك المرحلة، واشتداد ضغوطها على أشخاصها. وبالتالي فإن القفز فوق المواقف المسجّلة آنذاك، قد يفسره إدراك المعنيين للمسافة القائمة بين ما كان يقال وما كان يضمر. وقد يقول آخرون إن السبب أكثر عمقاً وبنيوية، ذلك أن المعني بالحدث والبحث، شخص اشتهر باعتماده مبدأ: «واستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان».
غير أن القراءة الشاملة لجريمة ذلك النهار المشؤوم ستظل تنتظر التدوين اليومي المفصّل، لتلك المرحلة الأدقّ من حياة رفيق الحريري، والممتدة بين زيارته دمشق ولقائه الرئيس السوري بشار الأسد في الأسبوع الأخير من آب 2004، مروراً بسيره في عملية التمديد للرئيس اللبناني إميل لحود، وصولاً إلى صدور القرار 1559 عن مجلس الأمن في 2 أيلول من السنة نفسها، وانتهاءً بظهيرة ذلك الاثنين الأسود.
تروي شخصية خليجية أنه بعد أسابيع قليلة على التمديد، حلّ الحريري ضيفاً إلى مائدة العشاء، في منزلها في إحدى المدن الخليجية. وكان من بين الضيوف أيضاً فؤاد السنيورة وثلاثة من المرافقين الأمنيين والإعلاميين لرئيس الحكومة المستقيل. أثناء العشاء الخاص والمغلق والبعيد عن الإعلام، سئل الحريري بلهجة تزاوج بين التحدي والاستيضاح: «لقد قلت ذات مرة إنك مستعد لأن تقطع يدك ولا توقّع تعديلاً دستورياً يغيّر أجل الولاية الرئاسية. فماذا تبدّل لتعود عن تعهّدك؟». ابتسم الراحل الكبير، قبل أن يتبسّط في الإجابة: «كل ما في الأمر أنني ذهبت إلى دمشق والتقيت الرئيس بشار. قال لي بصراحة كاملة: «أنا أدرك مدى حرصك علينا في سوريا، ومدى التزامك الدفاع عن مصالحنا كدولة، ومصالح لبنان. ولذلك أنا أقول لك اليوم إن إميل لحود هو بشار الأسد، وإن التمديد له هو ضرورة لنا ولي أنا شخصياً. وبناءً عليه أنا أتمنى عليك الموافقة على هذه الخطوة ودعمها والعمل على إقرارها». ثم تابع الحريري، نقلاً عن الشخصية المضيفة نفسها: «عدت إلى بيروت ودرست المسألة مطوّلاً، ثم أبلغته موافقتي. هذا هو كل ما حصل».
بعد 14 شباط 2005، خرجت صيغ كثيرة متناقضة في شأن محضر ذلك اللقاء التاريخي. بعضها صار ملك آليات التحقيق الدولي، وبعضها الآخر سكن مخيّلات الناس وأساطير النسيج التجسسي. غير أن الكلام المعلن للرئيس المغدور ظل أقرب إلى تلك الرواية الشخصية الرسمية.
يوم الجريمة بالذات، كانت الزميلة «السفير» تتفرّد بنشر مقابلة مع الحريري، طمست حيثياتها طيلة عامين كاملين. أو كأن ثمة من تمنّى لو لم تثبت كلماتها. ذلك أن سيد قريطم حدّد في مقابلته الأخيرة تلك، خطوط سياسته ومواقفه من جميع القوى والمواقع والمستجدات: «أنا أرفض الالتحاق بأحد. وعندما اندفع لقاء البريستول الأخير في خطابه، سارعت إلى التشديد على الطائف كسقف سياسي ألتزمه في مسألة الوجود السوري والصلاحيات الدستورية»، قاصداً بذلك رفضه الانضمام إلى مطالبة المعارضة في حينه بانسحاب الجيش السوري من لبنان تطبيقاً لاتفاق الطائف، وفق قراءة المعارضين السياديين.
وتابع الحريري في كلامه الأخير توجيه رسائله اللاذعة: «يتهمونني بالتحالف مع بعض أطراف المعارضة، بينما هم يحاولون بكل الوسائل استمالة العماد ميشال عون، ويلتقون السيدة ستريدا جعجع». ولم يفصح الرجل عن التفاصيل، لكن الإشارة كانت كافية في فترة الحديث الرائج عن زيارات سرية وتحالفات تحت الطاولة. وعن «حزب الله»، أكد الحريري اقتناعه بحفظ «مقعد نيابي للمقاومة في بيروت»، متوّجاً كلامه بتأكيده أنه سيكون «الأحرص على بناء علاقات مميزة وصحيحة مع سوريا، وعلى الدفاع عن مصالحها الاستراتيجية»، «فأنا قومي عربي منذ عشرات السنين، ولن ألجأ إلى تغيير قناعاتي الآن في عمر الستين».
هذا الكلام الأخير، لم يأت مغايراً لمواقف الحريري طيلة حقبة وجوده في السلطة. لكن الأهم أنه مثّل استمراراً لما ظل يعلنه في «فترة الخوف والنار» تلك، التي امتدت بين التمديد والاغتيال، مع ما رافقها من خروج من الحكومة، ومحاولة اغتيال مروان حمادة في الأول من تشرين الأول 2004، وصولاً إلى تضييق «تنك الزيت» ودوائر القانون الانتخابي.
فبعد زيارة دمشق الشهيرة طار الحريري إلى سردينيا، حيث تعرّض لحادث إصابة كتفه. ووسط التأويلات والتخيّلات في شأن، أعلن من منتجعه أن «لبنان يؤكد أنه وسوريا سيبقيان باستمرار على علاقة مميزة، تسودها روح الأخوّة والصداقة، ويجمعهما التاريخ والمصالح المشتركة. إن لبنان كان وسيبقى مع سوريا، كما كانت معه دائماً في السرّاء والضرّاء».
وفي 14 أيلول، وفيما كان النائب أحمد فتفت يناشده عدم تقديم استقالة حكومته واللجوء بدل ذلك إلى تفعيل العمل الحكومي في ظل الولاية الممدّدة، خرج الحريري من برشلونة، لمناسبة تسلّمه جائزة عالمية، ليقول: «نحن ممتنون بشكل خاص لسوريا، التي لما كنّا قد تمكّنّا من الوصول إلى ما وصلنا إليه من استقرار، لولا مساعدتها».
وفي اليوم التالي انتقل إلى بلجيكا، ليعلن من عاصمتها أن الضغوط التي يتعرض لها لبنان آنذاك، سببها القرار1559.
ماذا تعني تلك الكلمات؟ ما هي صدقيتها؟ وما هي دلالاتها السياسية؟ والأهم، كيف يمكن قياس حقيقة ما كان يحصل في تلك الفترة، بناءً على مضمونها الظاهر؟.
سرّ آخر، ينضم إلى حياة مليئة بالأسرار، أو هو «الكتمان» لقضاء الحوائج.