جوزف سماحة
اضطر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى نوع من الاعتذار قبل أن يلقي خطابه. كان يتحدث قبل أيام أمام المؤتمر الأمني في ميونيخ، فطالب مستمعيه بأن يسمحوا له بالابتعاد عن التهذيب المفرط، ووعدهم بأن يقول ما يفكر فيه جديّاً عن «مشكلات الأمن العالمي»، وسألهم ألاّ يغضبوا منه. ثم انطلق مقدّماً وصفه للعالم الذي نعيش فيه. الخطاب تاريخي بالمعايير كلها. لا بأس في استعادة أبرز ما فيه:
نعيش، حسب بوتين، في عالم أحادي. عالم السلطة الواحدة ومركز القوة الواحد. مركز صنع القرار واحد. السيد واحد. الحاكم واحد. عالم يجافي الديموقراطية ولا يسمح للمدافعين عنه بإلقاء الدروس عنها. نظام هذا العالم مهدّد لأنه لا يمكن، في ظله، إيجاد أسس أخلاقية للحضارة المعاصرة. وبما أن الأعمال الأحادية وغير الشرعية لا تحلّ المشكلات، فقد ازدادت الحروب المحلية والإقليمية وبتنا نشهد استخداماً غير مضبوط ومبالغاً فيه للقوة العسكرية في العلاقات الدولية، ما يغرق الجميع في نزاعات دائمة ويجعل الحلول مستحيلة.
لقد تجاوزت الولايات المتحدة، في رأي بوتين، حدودها الوطنية في المجالات كلها، وباتت تمارس احتقاراً متزايداً لمبادئ القانون الدولي، وتفرض معاييرها، وتنشئ وضعاً خطيراً لا يشعر أحد بالأمان فيه، فيكثر الإسراع إلى سباق التسلّح، ويتزايد الإرهاب، ويصبح واجباً التفكير بهندسة أمنية توجد توازناً في المصالح. ويرى بوتين أن ثمة مراكز اقتصادية بازغة ستسعى إلى ترجمة نفسها سياسياً بما يوجب تحويل استخدام القوة إلى استثناء. ويستغرب كيف أن دولاً ترفض عقوبة الإعدام تشارك في حروب غير شرعية يسقط فيها مئات آلاف الضحايا.
يستعرض بوتين تجربة التحوّل السلمي نحو الديموقراطية في بلدان المعسكر الاشتراكي ليرفعها شاهداً ضد اللجوء إلى القصف في كل مناسبة بدعوى إحداث التغيير، ويرفض في هذا السياق أن يشرع حلف شمالي الأطلسي أو الاتحاد الأوروبي أي حرب، حاصراً هذه المهمة بالأمم المتحدة.
يعود إلى التاريخ القريب ليلاحظ الجمود في عملية نزع التسلّح التي تم التوافق عليها، ويشكك في اتجاه الولايات المتحدة إلى خفض ترسانتها. ثم ينتقل إلى إبداء الرفض القاطع لعسكرة الفضاء ونتائجها غير المحسوبة، ولمعارضة نشر الدرع الصاروخية في أوروبا، ولملاحظة الوضع البائس لمعاهدة القوات التقليدية في «القارة القديمة».
يشن بوتين حملة غير مسبوقة على توسيع «ناتو» حتى الحدود الروسية، ولا يرى في ذلك أي تحديث للحلف، بل ابتزازاً موجّهاً إلى موسكو ومخالفة لوعود سابقة قطعت لها بالعكس. يرى أن جدار برلين سقط نتيجة قرار تاريخي اتخذته شعوب، ويأسف لمحاولة بناء بدائل له.
يتعرّض للبرنامج النووي الإيراني، مميّزاً بين الحق في امتلاك التكنولوجيا والاستخدام العسكري لذلك. ويقترح مجموعة من الأفكار تبدأ بتقديم الحوافز ولا تنتهي بإنشاء مراكز تخصيب لليورانيوم تعمّم العلم والفائدة.
يرد التهمة الموجّهة إلى بلاده بالانغلاق، ويرد في ادّعاءات مكافحة الفقر ما يشبه الأكذوبة ويدعو إلى نظام اقتصادي عالمي عادل. ويشن هجوماً عنيفاً على عدد من الهيئات الدولية مثل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا التي تحوّلت إلى أداة لتغليب مصالح مجموعة من الدول...
يمكن تبنّي الأطروحات التي قدمها بوتين كاملة. ويجب التعليق عليها بسرعة:
أولاً ــــ لا يزعم الرئيس الروسي أن هذا الفهم لأحوال العالم ولدور الولايات المتحدة فيه سيشكل سنداً لسياسة بلاده. بدا كمن استقال من منصبه لفترة ليقول ما يفكر فيه فعلاً، ليوجّه إنذاراً نظرياً، وليلمح إلى أنه جاهز لسياسات بديلة.
ثانياً ـــــ يبقى أن الخطاب، في جانبه الوصفي، استثنائي. لقد مضى زمن طويل لم نسمع في خلاله رئيس دولة نووية بحجم روسيا يعرب عن هذه التذمّرات، ويحدّد وجهة الاتهام، ويستعيد لغة لم تكن رائجة فعلاً حتى في أيام الحرب الباردة.
ثالثاً ـــــ تمثل كلمة بوتين محطة مهمة في سياق علاقة روسيا بالولايات المتحدة خصوصاً، وبحلف شمالي الأطلسي عموماً. إن الكلمة هي عصارة المرارات التي واجهتها موسكو على امتداد ما يزيد على عقد ونصف العقد. لقد عوملت روسيا باستهتار ما بعده استهتار. اعتقد البعض أنه يمكن تغييرها في مئة يوم. وشهدت، بدل اقتصاد السوق، نمو السوق السوداء. جرى تفكيك المصانع والقطاع العام وبيعها بأبخس الأثمان. صعد أوليغارشيون إلى قمة السلطة الاقتصادية بسرعة ضوئية على حساب عشرات الملايين الذين قذفوا إلى الفقر والبطالة والجوع... ونقص المعدل الوسطي للأعمار. جرى تعهير كل شيء، بما في ذلك الدور الروسي الهائل في هزيمة النازية وبتضحيات لا مثيل لها. جرى تنصيب مسؤولين في أعلى المراتب يخجل أي مواطن من أن يكونوا حكّاماً له وكان مثالهم الأشدّ فظاظة بوريس يلتسين المتهالك والعاجز عن جمع قدراته العقلية. نهبت البلاد. ترعرعت المافيا. انحطّت الثقافة. مرّغت كرامة الجيش بالوحل. وصلت قوات الأطلسي إلى الحدود، وانتقلنا من تفكيك الاتحاد السوفياتي إلى تفكيك الاتحاد الروسي. تعرّضت موسكو، في كل مرة كانت تحاول النهوض، لحملات إعلامية قاسية بدعاوى متنوّعة، وهي حملات كانت تصعد أو تهبط حسب درجة الانصياع للسياسات الغربية.
لم يمد أحد يد المساعدة. أدّى انتهاء الثنائية القطبية إلى انفلات أميركي، لا إلى نظام دولي جديد. وأدّى انتهاء التجربة إلى تعزيز عولمة نيوليبرالية متوحشة ترفع لواء «علاج الصدمة» فتبقى الصدمة ولا علاج.
مثّل وصول بوتين إلى السلطة خطوة على طريق وقف التدهور. ولقد نجح جزئياً في ذلك مستنداً إلى جرح الكبرياء في بلاده وإلى استعداد يبديه هذا الشعب، دائماً، لتضحيات كبيرة.
رابعاً ـــــ قال بوتين ما قاله لأنه يستشعر أن الوضع الداخلي في بلاده يسمح له بذلك. وضعه الشخصي يسمح، والوضع الاقتصادي يسمح، وعودة قدر من الاستقرار تسمح. لم يفعل سوى التذكير بأن في روسيا دولة وطنية ذات مصالح محدّدة يجب أخذها بالاعتبار لأنها، ببساطة، تحترم نفسها. لا يعني ذلك، أبداً، العودة إلى «القطبية الثنائية»، ولا يعني، أيضاً، تدشين الدخول في عالم متعدّد الأقطاب. يعني، على الأقل، أن الميل موجود لكلام صريح يقول للإدارة الأميركية، وحلفائها، بعض ما يجب قوله.
خامساً ـــــ عندما يرد وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس على بوتين مصرّحاً: «إن حرباً باردة واحدة تكفي»، يكون يجانب الصواب. فما أكده الرئيس الروسي، في الحقيقة، هو أن بلاده أنهت الحرب الباردة من جانبها، فاستمرت الولايات المتحدة في خوضها ضدها وضد العالم.
سادساً ـــــ قدم بوتين عرضاً لعالم تريد واشنطن تحويله إلى غابة. العرض مقنع ومركّب. وهو يذكّرنا بالتبسيطية القاتلة لجورج بوش الذي أعلن ذات مرة، في تحديد عالي الذكاء لعلاقته مع بوتين وروسيا: لقد نظرت في عينيه فوجدت أنه يمكن أن يكون شريكاً! يبدو أن فهم بوش للشراكة من نوع خاص جداً.