إبراهيم الأمين
يبدو أن الأمور تتعقّد بأسرع مما كان يتوهم كثيرون. ولم يعد في الإمكان تقدير أي أدوار جديدة من النوع الذي يفيد في كسر الحواجز المرتفعة بين الجهات المتنازعة، وثمة كلام قاسٍ قيل أمس في غرف نصف مغلقة، وثمة مقدّمات تولاها فريق “القوات اللبنانية” وملحقاتها المسيحية وأخرى جاءت في مضمون المواقف الصادرة عن فريق السلطة تشي بالخطر الأكبر، وهو الهروب من صيغة التسوية المحلية ــــــ الإقليمية إلى طلب النجدة الدولية من خلال تبني مجموعة من المطالب والخطوات التي تندرج في سياق جعل لبنان واقعاً تحت وصاية كاملة سياسياً واقتصادياً وأمنياً، وهو الأمر الذي ستكشف الفترة اللاحقة عن بقية مندرجاته، ولا سيما الاقتصادية والأمنية، من خلال ما يسمى “موجبات الإصلاح المفترض ربطاً بمؤتمر باريس ــــــ3 وبما يقع في باب حماية لبنان من الاعتداءات الإرهابية القادمة من سوريا مباشرة، والكلام عن نقص في القرار عند قيادة الجيش بما يحول دون قدرته على القيام بدوره” على حد قول أقطاب فريق السلطة، علماً بأن مناخ التوتر الكامن ظل مسيطراً حتى مع ارتفاع منسوب التفاؤل عند المتابعين للجهود السعودية ــــــ الإيرانية، وصولاً الى أن الأكثر توتراً في فريق السلطة، ولا سيما الثنائي جعجع ــــــ جنبلاط حاولا صياغة الموقف بطريقة مختلفة بالقول إن سوريا لا تزال هي العقبة، وإذا كان هناك من تطور في الموقف الإيراني فإن سوريا لا تساعد على تكريسه.
من الجانب الدولي، لا يجد السفير الأميركي جيفري فيلتمان ما يمنعه من قول ما قاله أول من أمس، وهو أصلاً لا يأبه لأي موقف رافض لسياسة بلاده في لبنان أو في المنطقة، لكنه يعرف أن من يجتمع بهم هذه الفترة هم من الفريق العامل تحت وصايته، وهو سيكون مصدوماً إن ناقشه أحد هؤلاء في موقفه الأخير، والتحريض المتواصل من قبله ومعه زميله السفير الفرنسي برنار إيمييه الذي تولى أخيراً شمل قائد الجيش العماد ميشال سليمان بالملاحظات السلبية، على اعتبار أن ما هو مطلوب من الأخير أميركياً وفرنسياً يتلخص في قمع المعارضين بأي ثمن وزيادة الضغط أو الحصار على المقاومة والشروع في خطوات تطبيع على الحدود جنوباً. وجاءت مجموعة التطورات الأخيرة لتعطي نتائج معاكسة.. وعين السلطة اليوم على الجيش!
منذ وقت غير قصير، وفريق السلطة يتغزل بالجيش وقائده، وحصل مع سليمان ما حصل مع الرئيس نبيه بري طوال شهور وأسابيع، وما إن قرر رئيس المجلس إطلاق موقف سياسي من الأزمة حتى صار عقبة بوجه تطور لبنان، وأداة في يد مشروع الإرهاب السوري ــــــ الإيراني كما أفتى العلّامة المفدّى جنبلاط. وهذه هي حال قائد الجيش، فكان عليه برأي هؤلاء أن يقمع المتظاهرين يوم ثلاثاء الإضراب الشهير، وكان عليه المشاركة في إطلاق النار على الناس في أحداث الخميس الأسود، وممنوع عليه اقتحام أي منزل لاعتقال أي مشتبه به في عمليات القنص وإطلاق النار على العسكريين أو المدنيين، كما كان عليه أن يبادر الى اقتلاع المعتصمين من وسط بيروت، وكان عليه القيام بحملة تطهير لمنطقة الأوزاعي لمنع احتجاج أهالي ضحايا عصابات السلطة، وأن يستمع الى تحذير وليد جنبلاط من أنه سوف يتولى بنفسه وبلحمه وشحمه فتح الطرقات إذا ما فكر أحد من المواطنين بالاحتجاج على “انفعالات” عناصر حزبه.
كذلك كان على قائد الجيش التشهير بالمقاومة عندما اكتُشفت شاحنة الأسلحة. وكان عليه إصدار بيان والقيام بخطوات تدين مجرد اكتشاف العدو لعبوات ناسفة على الحدود، ثم كان عليه إبعاد أي عنصر أو مناصر لحزب الله عن الحدود الدولية ومنعه من رفع أعلام المقاومة وترك الأمم المتحدة تقوم بما تريده من أعمال تفتيش يومية في كل دسكرة في الجنوب، وعليه إطاعة أوامر ضباط القوات الدولية الذين قرروا أن يرسموا الخط الأزرق من جديد دون أي جدال أو تدقيق أو إشعارهم بأن هناك دولة تريد المحافظة على أرضها، كما كان على الجيش إصدار بيانات تنفي أي احتمال لتعديل الخط الأزرق وأن لا يبالغ في مشاعره الوطنية ويلجأ الى إطلاق النار على الجرافة الاسرائيلية قبل سؤال القيادة السياسية عما عليه أن يفعل في مثل هذه الحالة، وكان عليه ان لا يترك رئيس الحكومة يجيب عن أسئلة النواب أو السياسيين عما يجري مع القوة الدولية في الجنوب، وكان على الجيش ان يبادر الى كل الخطوات التي تظهره مثل غيره من مؤسسات الدولة منضبطاً بالتمام والكمال.
كل ما سبق تمكن قراءته في محاضر مناقشات فريق السلطة الرسمية وغير الرسمية وفي الطلبات المتكررة من رئاسة الحكومة في السرايا الكبيرة أو في قريطم أو المختارة أو أي مكان آخر، وفي المداولات التي تجرى تحت عنوان “تصويب مسار المؤسسة العسكرية” الذي يتولاه مفكرو ثورة الأرز. ثم جاء القسم الآخر من الحملة الذي يعود بالذاكرة الى الموقف من دور الجيش خارج مهماته التقليدية، وهي موجة يقول أصحابها إن الهدف منها “قمع طموحات كامنة” لدى العسكريين بأن يتولوا دوراً سياسياً في هذه المرحلة، وإن هناك من يريد للجيش أن يتولى الأمور بنفسه وأن يحسم على طريقته الأزمة السياسية القائمة في لبنان. وهو كلام قيل في سياق نقاش لافت بين سياسي بارز وبين السفير الفرنسي الذي استجدّت عنده ملاحظات على أداء الجيش ودوره، وهو الأمر الذي ترافق مع كلام عن رغبة في منح الجيش أو قائده دوراً سياسياً، مثل الإشارة الى سليمان لأن يكون هو الوزير الملك رقم 11. أو أن يجري التداول باسمه كواحد من بين المرشحين لرئاسة الجمهورية، حتى اذا جاءت فكرته بالاستقالة أو الإجازة احتجاجاً على الوضع قيل إنها من ضمن خطة للخروج من الإدارة قبل ستة أشهر على سبيل التأهيل لشروط الترشح للموقع الرئاسي الأول، أو الكلام عن أن لديه فريقه الذي ينشط في لبنان وخارجه لأجل تشكيل قوة ضغط تدعمه في هذه المعركة. ويتولى فريق السلطة وحده إدارة هذه الماكينة سياسياً ودبلوماسياً وإعلامياً، وهو الأمر المتصل أكثر فأكثر بمن يريد حصر جدول الأعمال بنقاطه فقط، وحصر المسرح بفريقه دون الغير. وهو ما يكشف عن عمق الأزمة التي ترافق المساعي العربية والاقليمية لأجل وضع حد للأزمة السياسية الداخلية، حيث بدت الصورة أمس قاتمة الى حدود أن هناك من خرج ليدعو الناس الى الرحيل مبكراً، لأن أخطر ما في تفجيرات أمس أنها ليست من النوع الذي يحصل استثنائياً، ولمرة واحدة فقط.. الله يستر!