جوزف سماحة
سارع لبنانيون إلى التبشير بإمكان النقل الميكانيكي لـ«اتفاق مكّة» الفلسطيني إلى لبنان. الارتياح إلى الاتفاق المذكور مفهوم. ولكن يجدر التوقف بعض الشيء أمام احتمال استنساخه في لبنان. لماذا؟
يندرج «اتفاق مكّة»، بصيغة أو بأخرى، في الطبعة الأخيرة للاستراتيجية الأميركية في المنطقة. وتقضي هذه الخطة بتحريك المسار التفاوضي الفلسطيني من أجل تسهيل «إعادة الاصطفاف» إقليمياً وتدعيم قوى الاعتدال بسلاح سياسي ضد قوى التطرّف. صحيح أن «حماس» محسوبة على قوى التطرّف، وصحيح أن بنود الاتفاق ليست ما تطمح إليه الولايات المتحدة وإسرائيل. إلا أن في الإمكان الرهان على قبول أميركي بأن يفيض الاتفاق عن المرغوب فيه إذا كان ذلك يسمح بتعبيد الطريق أمام الاستراتيجية الإجمالية، حتى لو كان التعبيد مؤقّتاً وجزئياً.
ويمكن القول، بهذا المعنى، إن «اتفاق مكّة»، أو التمهيد لتحرك ما على الجبهة الفلسطينية، منظوراً إليه من واشنطن، يهدف إلى تعزيز الهجمة الأميركية في ساحتين من الساحات المقدّمة بصفتها ميدان مواجهة مع التطرّف: العراق ولبنان.
تنتمي الأزمة اللبنانية، إذاً، إلى سياق مختلف، حالياً، وأميركياً، عن السياق الذي تنتمي إليه الأزمة الفلسطينية بوجهيها الداخلي (الاقتتال) والخارجي (الاحتلال). هذا الاختلاف تكتيكي طبعاً، لكنه قائم حالياً ولفترة.
إذا كان هذا التقدير صحيحاً، ونظنه كذلك، يصبح ممكناً فهم مغزى البيان الذي قرأه أول من أمس السفير الأميركي جيفري فيلتمان. إنه بيان ضد الوفاق الداخلي، وضد التسوية، وضد أطراف محلية، وضد سياسة قوى معارضة، إلخ... إنه دعوة مفتوحة إلى إبقاء الأزمة ومخاطرها.
ولقد صدر البيان في ظل تواتر معلومات، ولو غير موثقة، عن تقدم المساعي العربية والإقليمية والمحلية لإيجاد ترجمة سياسية لفكرة «لا غالب ولا مغلوب». فهذه الفكرة إنما تقوم على إشراك قوى في السلطة هي، بالضبط، القوى التي يتّهمها فيلتمان بالخروج على الدولة، لا بل بـ«قتل وتشويه» لبنانيين آخرين.
يبدو، من بيان فيلتمان، أنه إذا كان يمكن الولايات المتحدة أن «تبتلع»، ولو بصعوبة، ولو مؤقتاً، اتفاقاً فلسطينياً يشمل «حماس»، فذلك لحساسية الملف الفلسطيني في استراتيجيتها العامة. إلا أن السفير الأميركي يقول لنا، بوضوح ما بعده وضوح، إن بلاده تعارض تكرار التجربة في لبنان... علماً بأن المملكة العربية السعودية حاضرة في الحالتين.

***


حصل التفجير الإرهابي في المتن في ظل هذا المعطى. لا بد من استدراكين. الأول هو أن من الضروري تفهّم الميل المتعاظم لدى المواطنين لإغفال الشبكة المعقّدة للعلاقات الإقليمية والدولية التي تؤلف الأزمة اللبنانية جزءاً منها. ويتعزّز ذلك، أمس، من الطبيعة الإجرامية الخالصة لاستهداف مدنيين متوجّهين إلى أعمالهم. قد لا يستمع أحد إلى من يلقي دروساً عن أبعاد الأزمة لأنه لا صوت يعلو فوق أصوات الجرحى وذوي الضحايا.
هذا هو الاستدراك الأول. أما الاستدراك الثاني فهو أنه لا مجال لأي ربط محكم وجنائي بين السياسة الأميركية العامة وحادثة أمنية محدّدة. نقول ذلك استباقاً لما قد يقوله فيلتمان من أن الذين اعتادوا اتهام أميركا بكل شيء يكرّرون لغتهم الخشبية.
برزت روايتان في «شرح» العمل الإرهابي وأسبابه ودوافعه.
تزعم الرواية الأولى أن التفجيرين في الباصين هدفهما منع المشاركة الكثيفة، المسيحية تحديداً، في إحياء الذكرى السنوية الثانية لاغتيال الرئيس رفيق الحريري. ومن باب التنويع على هذه الرواية ذكر أن العملية تستهدف «حزب الكتائب» (قرب بكفيا، وبعد اغتيال الوزير بيار أمين الجميل)، أو أنها تستهدف وزير الدفاع إلياس المر (بعد قضية شاحنة الأسلحة التي كانت مخصّصة للاستخدام الداخلي)، إلخ...
تزعم الرواية الثانية أن القصد، بالضبط، هو التعبئة، المسيحية تحديداً، لزيادة المشاركة في مهرجان 14 شباط، وأن التهمة يجب أن توجّه إلى أطراف قد تكون متضرّرة من محتوى الحلول السياسية المتقدمة وراغبة في منع أي طابع «توحيدي» لحدث اليوم.
لم نستمع كثيراً إلى تعابير من نوع «لننتظر نتائج التحقيق»، أو «لنبحث في المسؤوليات الأمنية»، أو «ما سبب الفشل المتمادي لبنانياً ودولياً»، إلخ... لم نسمع ذلك لأن العمل الإرهابي استحضر الصورة الأصلية للانقسام اللبناني وهو، للمناسبة، انقسام يزوّد أي حادثة أمنية بشحنة خطيرة تزيد عمّا فيها من خطورة في حد ذاتها.

***


«الحريرية» ممارسة. تمر الذكرى الثانية للاستشهاد من دون أن يقوم لبناني باستنباط دروس هذه الممارسة وصياغة قواعد للتعاطي مع الشأن العام انطلاقاً من ذلك. ربما خطر في بال أحد، ذات يوم، أن يكتب رواية خرافية تفترض، على صعوبة ذلك، أن الرجل الغائب هو الرجل الحاضر الذي يتعامل مع جوانب الأزمة اللبنانية كلها. يميل المرء إلى الاعتقاد بأننا كنا في غير حال. إن فقدان الحريري خسارة بهذا المعنى. ولعل أخبث ما قيل في حقه أنه أفاد لبنان باستشهاده أكثر مما أفاده في حياته. والخبث كامن في الإيحاء بأن غياب الحريري كان شرطاً لاستفادة لبنانية أكبر. وهو كامن، أيضاً، في الإيهام بأن عدداً من مدّعي «الحريرية» يتعاطى السياسة الآن بأفضل مما كان فعل هو.