نقولا ناصيف
لم يكن متوقعاً أن تكون النبرة التي خاطبت بها قوى 14 آذار، البارحة، المعارضة، غير ما قاله أركانها، ما خلا عبارات غير مألوفة في القاموس السياسي نحو الداخل والخارج أطلقها رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط ورئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع. وسواء كانت هذه العبارات مبررة أم لا، فإن وطأة المواجهة بين الفريق الذي يمثلان، والمعارضة ومن وراء هذه سوريا، تُسقط بالنسبة إليهما، ربما، كل التحفظات. لكن ما عكسه جنبلاط وجعجع وشريكهما الثالث رئيس الغالبية النائب سعد الحريري يرسم السقف السياسي لخطة المواجهة، بملفاتها كلها، التي يقودها الزعماء الثلاثة حتى انتخاب رئيس جديد للجمهورية. وهم، تبعاً لذلك، تقاسموا الرسائل السياسية التي وجهوها إلى الداخل والخارج القريب، أي سوريا، لسببين على الأقل:
أولهما، أنهم المعنيون مباشرة بأي صدام ميداني محتمل للدفاع عن شرعية حكومة الرئيس فؤاد السنيورة وبقائها في الحكم وحماية سلطة الغالبية النيابية. وهو ما أبرزته أحداث 23 كانون الثاني الفائت و25 منه وحرب الشوارع التي دارت رحاها لساعات سنية ـ شيعية ومسيحية ـ مسيحية، وأظهرت أن ميليشيات الحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية وتيار المستقبل هي الآلة العسكرية لقوى 14 آذار.
ثانيهما، أنهم يمثّلون «السيبة» القائدة لقوى 14 آذار على مستويي التمثيل الطائفي واجتذاب الشارع والقدرة على تحريكه وتجشييه، ناهيك بامتلاكهم عدّة الشغل الضرورية لتحقيق تماسك قوى 14 آذار سياسياً وإعلامياً ومالياً وأمنياً وعسكرياً ودبلوماسياً. والثلاثة يتصرفون في السيبة القائدة هذه، وكأن لكل منهم ملفه الخاص في قوى 14 آذار ضمن مروحة الخيارات والمواقف التي تجمعهم في الائتلاف العريض والقوي للغالبية النيابية: للحريري ملف المحكمة ذات الطابع الدولي لكشف قتلة والده، ولجنبلاط ملف إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، ولجعجع ملف انتخابات رئاسة الجمهورية على أنه الناخب الرئيسي في هذا الاستحقاق. وهكذا توجه جنبلاط إلى عدو واحد هو الأسد، وجعجع إلى عدو واحد هو الرئيس لحود.
أما الرسائل التي وجهها الزعماء الثلاثة إلى المعارضة، وسوريا والمجتمع الدولي أكثر منها إلى شارع 14 آذار، فيمكن استخلاص فحواها مما يأتي:
1 ـــ من غير أن يختلف مع شريكيه الآخرين على السقف السياسي لتحالفهما ـــ وهم في أي حال توزعوا الأدوار ـــ بدا الحريري أقل تشنجاً وتصلباً عندما طرح مجدداً مقايضة قرار شجاع بقرار شجاع. وبدا المقصود بذلك أنه يأمل صدور قرار شجاع عن المعارضة بإقرار المحكمة الدولية، فتلاقيها الغالبية بقرار شجاع هو ـ ربما ـ الثلث زائداً واحداً في حكومة الوحدة الوطنية. والواضح أن قراراً شجاعاً تُقدم عليه قوى 14 آذار ليس إلا ما لم يسبق أن أقدمت على التنازل عنه حتى الآن في كل المراحل السابقة للتفاوض محلياً أو عربياً. وكانت قد سلّمت حصراً بالموافقة على تأليف حكومة وحدة وطنية متوازنة لا غلبة فيها لفريق على آخر. وهي المقايضة التي كان الحريري قد طرحها على الرئيس نبيه بري ونائب حزب الله محمد رعد في الجلسة الأخيرة للتشاور في 11 تشرين الثاني الفائت قبل استقالة الوزراء الشيعة الخمسة من حكومة السنيورة. ومع أن الزعيم السني تشدّد في الإصرار على إقرار المحكمة الدولية، جازماً في الوصول إليها قريباً، فقد بدا أكثر رغبة في تحقيق اتفاق داخلي عليها.
وخلافاً لجنبلاط وجعجع اللذين أوصدا أبواب الحوار وضيّقا هامش معاودته في ظل الشروط التي وضعاها لتسوية محتملة. فإن أهمية ما أطلقه الحريري أمس تكمن في تزامنه مع ما رشح عن تقدّم في الاتصالات بين فريقه وفريق حزب الله حيال تسوية الحد الأدنى. وكانت قيادة الحزب قد اجتمعت ليل الثلثاء إلى ما بعد الأولى فجراً لمناقشة الاقتراحات المتبادلة، وأبرزها إجراء مقايضة بين إقرار المحكمة في مجلس النواب وتأليف حكومة وحدة وطنية تمنح فيها المعارضة النصف زائداً واحداً وفق معادلة 19 + 11، على أن يصرف النظر عن انتخابات نيابية مبكرة. وطبقاً لمعلومات عن مداولات الاجتماع الطويل لقيادة حزب الله، لا نتائج ملموسة تنبىء بعد بإمكان تكريس اتفاق على المقايضة التي أعاد الحريري إطلاقها أمس من ساحة الشهداء.
2 ـــ كرّر جنبلاط تأكيد موقعه ومساره في قوى 14 آذار، وهو أن عدوه الفعلي ليس في ساحتي رياض الصلح والشهداء فحسب، بل على الجانب الآخر من الحدود، أي النظام السوري. وهو بذلك، كمتقدم بين متساوين في قوى 14 آذار، نعى أي تسوية تنطلق من فتح حوار مع دمشق أو تأخذ في الاعتبار مصالحها في لبنان، سواء بالنسبة إلى المحكمة الدولية أو إيجاد مواقع لحلفائها التقليديين في هذه التسوية. ولأن حلاً لبنانياً بمعزل عن سوريا يبدو ضرباً من الوهم، أو مبرراً لمزيد من الاضطرابات والفوضى، كون الطرف الآخر في هذا الحوار معنياً بتبني قسط وافر من المصالح السورية في لبنان، فإن مغزى خطاب جنبلاط تركز على فكرة جوهرية طبعت ولا تزال واقع انهيار علاقته بالنظام السوري، وهي أن لا استقرار للبنان في ظل النظام السوري الحالي. بل تصحّ المعادلة معكوسة: في ظل استمرار النظام السوري واستقراره في الداخل، فإن سلطة الغالبية وسلامة أركانها وحياتهم ومشروعهم للاستقلال اللبناني مهددة كلها. على نحو كهذا وقف الزعيم الدرزي على طرف نقيض من الحوار الإيراني ــــــ السعودي، ومن احتمال مصالحة سعودية ــــــ سورية.
ولعلّه بذلك يُذكّر من غير أن يفصح صراحة بأن «حرب السنتين» عامي 1975 و1976 انتهت برعاية الرياض مصالحة سورية ــــــ مصرية، وسورية ــــ فلسطينية، دفع ثمنها بعد أشهر والده كمال جنبلاط.
3 ـــــ توجّه جعجع إلى الداخل اللبناني بشروط تجعل آمال التسوية السياسية مستحيلة، برفضه الثلث المعطل للمعارضة وسلاح حزب الله. وهو بذلك لا يكتفي بإسقاط مبادرة رئيس المجلس، بل يبدو أكثر تمسكاً بالرهان على عامل الوقت، في ظل التوازن القائم حالياً، حتى الوصول إلى انتخابات رئاسة الجمهورية، التي من شأنها، تبعاً لسلسلة مواقف أدلى بها جعجع في الأيام الأخيرة، أن تفضي إلى حسم نهائي للصراع السياسي بين الغالبية والمعارضة. عندئذ تسيطر قوى 14 آذار على الاستحقاق وتكسب له الدعم الدولي. لذا يبدو جعجع أقل حماسة لتسوية وشيكة ما دام في وسع الغالبية إجراء انتخابات رئاسية بنصاب الأكثرية المطلقة الذي تملكه، وفق تفسيره للمادة 49 على الأقل، وقد بات يجاريه في هذا التفسير عدد وافر من أركان 14 آذار.