جوزف سماحة
كان يوم أمس لقوى «14 آذار»، أي لنصف لبنان. لا يرسل الحشد الكبير أي إشارة خاصة لأن التسليم قائم بالطبيعة التمثيلية لبعض المشاركين، وبقدرتهم على الحشد، وبامتلاكهم جمهوراً يلبّي نداءاتهم، فكيف إذا كانت خاصة بالذكرى السنوية الثانية لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري.
التركيز على عدد المشاركين لزوم ما لا يلزم. يجب، في المقابل، التشديد على سلمية الاعتصام برغم حصوله بعد أسابيع من التوتر شهدت صدامات و«حرب شوارع» وانتهت بالتفجيرات الإجرامية في المتن الشمالي. مرّ اليوم على سلام، في حين كان يمكن توقّع الأسوأ. ويدل ذلك على أن القرارات المركزية الكبرى في لبنان تريد الانضباط، ولا تسعى إلى تحميل القوى الأمنية فوق طاقتها، وترغب في عدم تكرار ما حصل يومي 23 و25 من الشهر الماضي.
لم يسبق أن شهد لبنان احتشاداً مماثلاً في ساحة منقسمة يفصل جدار عازل بين شطريها، وهو جدار يرمز إلى عمق الأزمة الوطنية التي نعيش. كانت التظاهرات تحصل بالتناوب، لكنها، هذه المرّة، حصلت بالتجاور ودلّلت على أن اللبنانيين يمكنهم أن يكونوا محترفي تظاهرات كبرى تعرف كيف تقف عند حدودها. هذه علامة خير تبقي خيط الأمل موصولاً.
تدل معطيات عديدة على أن درجة التعبئة بين القواعد تفيض عن الكلمات الهادئة لعدد من الخطباء. وإذا كانت التعبئة ناجمة عن أسابيع من السجال الحامي، ومن التجييش، ومن التحركات المناطقية والموضعية، فإن المهرجان المركزي لم يأت في استطراد ذلك، دافعاً إياه نحو ذروة جديدة، وإنما سار في عكس التيار وحاول ضبط اندفاعاته. هذه علامة قيادية تشير إلى وجود إرادة سياسية كان سعد الحريري أفضل من عبّر عنها أمس.
ربما كانت الموالاة في حاجة إلى هذا الاستعراض، وفي قلب بيروت، وفي هذه الذكرى، من أجل أن تنجح في بلورة خطابها أو، على الأقل، من أجل أن تنجح القوة الوازنة ضمنها في تحديد الشعار الرئيسي الذي تتمسك به.
ويمكن القول، بهذا المعنى، إن تظاهرة أمس هي، في الجوهر، تظاهرة المطلب الواحد: المحكمة الدولية. لقد قيل الكثير، خلال الأسابيع الماضية، في توضيح البرنامج الشامل للأكثرية النيابية والحكومية ولكن، عند لحظة الحقيقة، جرى استخراج المحكمة الدولية بصفتها، كما قال الحريري، المعبر الوحيد إلى ما سواها.
يسمح ذلك بالتقدم نحو قدر أكبر من الوضوح. نحن أمام معارضة تريد إعادة تكوين السلطة، وترفع لواء المشاركة السياسية عبر حكومة الوحدة الوطنية، وتنادي بإجراء انتخابات نيابية مبكرة وفق قانون جديد وعادل. أي إن المعبر الوحيد إلى أي شيء آخر هو، في رأي المعارضة، حكومة الوحدة الوطنية.
لكل طرف معبره الوحيد إذاً. هنا المشكلة وهنا التسوية إذا أمكنها أن تكون. لذلك لا يسعنا إلا أن نلاحظ، في ما يخص أمس، غياب الدفاع عن الحكومة الحالية بصفته المحور الحاسم للتحرّك. نعم لقد جيء على ذكرها إلا أن ذلك تراجع جديّاً في سلّم الأولويات. تظاهرة 14 شباط كانت ذات صلة بصاحب الذكرى، رفيق الحريري مع ما يستوجبه ذلك من تطلّب للعدالة الدولية، أكثر منها ذات صلة بالرئيس فؤاد السنيورة وحكومته في شكلها الراهن. المحكمة أعزّ من الحكومة. هذا، على الأقل، ما هو مسموح لنا باستنتاجه.
إلا أن المطلوب، في هذه الحالة، هو أن نسبر غور ما يجول في رأس سعد الحريري عندما يشدّد، غير مرّة، على الحاجة إلى قرارات شجاعة. يجب أن نسجّل له أنه لا يطلب هذه القرارات من الآخرين فقط بل، أيضاً، من نفسه وأمام مئات الآلاف. تقتضي الأمانة الإشارة إلى أنه لا يطلب ذلك من نفسه فقط بل يمضي أبعد ليعلن أنه مستعد. ما الذي يعنيه بذلك؟ هل يعني أنه موافق على الصيغة المعروفة بـ19 + 10 + 1؟ إذا كان الأمر كذلك، فلا شجاعة كبيرة في الأمر لأن هذا العرض سبق تقديمه. هل يعني أنه توصّل، أخيراً، إلى الموافقة، مقابل المحكمة الدولية وبالتزامن معها، على صيغة 19 + 11؟ إذا كان هذا ما حصل فإن شجاعته قد تضعه في تباين مع أحد خطباء أمس (سمير جعجع) الذي أعلن الرفض القاطع لهذه المعادلة.
ترجمة مهرجان أمس إلى سياسة تسمح بالقول إن الخط الناظم للعدد الأكبر من الخطابات هو «اليد الممدودة بشروط» إلى المعارضة، والتصعيد المبالغ فيه حيال دمشق. لا يعني ما تقدّم أن كل من تكلّم أوحى بذلك، لكنه يعني أن ذلك هو المزاج الذي بدا سائداً.
لنتأكد من ذلك، يفترض بنا أن نعود إلى ما حصل في المناسبة نفسها قبل سنة. ففي ذلك اليوم غلب الوجه الداخلي على ما عداه لجهة التركيز على إسقاط رئيس الجمهورية وضرب مواعيد محدّدة لإنجاز المهمّة. أما أمس، وحتى عندما أتى خطيب رئيسي على مهاجمة إميل لحود فإنه قرن ذلك بالتشديد على أنه راحل حتماً عند انتهاء ولايته.
في 14 شباط، قبل سنة، كانت القوى نفسها تعتقد أنها في حالة صعود وأن عليها، وفي إمكانها، «استكمال مسار التحرير والتغيير» عبر «إسقاط رمز النظام الأمني في بعبدا». غير أن تطورات الشهور الماضية أوصلت إلى قدر من التعقّل ناجم عن الإدراك المتزايد لموازين القوى. لذلك، قبل سنة والآن، تتم ملامسة الجوانب المختلفة لمشروع متكامل يطال، في ما يطال، سلاح المقاومة، إلا أن انتقال نقطة التركيز ذو دلالة: من الرغبة في الانتصار الكامل إلى الرغبة في تسوية على قاعدة القرارات الشجاعة المتبادلة.
إذا كان يمكن أن نسجّل لقوى 14 آذار اكتسابها قدراً من الواقعية في ما يخص عرضها الغامض لبندَيْ التسوية الداخلية، فإن المنطق يقودنا إلى أن نسجّل عليها انتكاسة عن مثل هذه الواقعية في ما يخص العلاقات اللبنانية ـــ السورية.
لقد كنا نعتقد أن المساعي العربية سبق لها النجاح في إقناع قوى لبنانية بالفصل بين موضوعي المحكمة والعلاقة مع دمشق. ولقد عنى ذلك، في وقتها، تقدّماً جديّاً نحو سياسة عقلانية. إلا أن انتكاسة حدثت يصعب تبريرها حتى في ظل الاتهامات الموجّهة إلى «النظام السوري». ومن المؤسف أن تتم «شخصنة» الخلاف إلى هذا الحد، وأن يسعى البعض إلى الإسفاف استدراراً للتصفيق. إن العلاقات اللبنانية ـــ السورية، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، أكثر أهميّة بكثير من أن تقارب بهذه الخفّة، وخاصة أن تجربتنا تعلّمنا أنها، أي هذه العلاقات، هي، باستمرار، الوجه الآخر لما نريده لأنفسنا.
مرّ أمس، واليوم يوم آخر. الأزمة قائمة. الاعتصام مستمر. الوساطات على حالها. المعارضة جرّبت وسائلها. الموالاة أكدت حضورها. الحكم عاجز عن الحكم. الأوضاع الإقليمية تتعقّد. التدخلات الخارجية تتزايد. إلى أين من هنا؟
يقال إن طرح الأسئلة الصحيحة هو نصف الطريق نحو تقديم الأجوبة الصائبة. لامس سعد الحريري أمس بعض هذه الأسئلة. إلا أن هناك ما بقي معلّقاً: ماذا يعني بـ«القرار الشجاع»؟، وهل يملك شجاعة التمايز عمّا قاله حليف له عن الشأن الداخلي، وحليف آخر عن الشأن الإقليمي؟