أنطوان سعد
ليس سراً أن البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير يرفض التدخل السوري في لبنان وسلاح حزب الله، ومتمسك إلى أبعد الحدود بالمحكمة ذات الطابع الدولي. حتى إنه توجس مع المطارنة الموارنة، في مطلع تشرين الأول الماضي، من المطالبة بتوسيع الحكومة التي يجمع المسيحيون وغير المسيحيين في لبنان على أنها مجحفة بحق المسيحيين، لأنها قد تنطوي على رغبة في تمييع عملية إقرار المحكمة ذات الطابع الدولي وإنشائها. وقد تسبّب موقف المطارنة آنذاك في بعض الامتعاض في الأوساط المسيحية لأنه قدّم مسألة إقرار المحكمة على قضية تصحيح التمثيل المسيحي في الحكومة.
غير أن المواقف التي أطلقها أركان الرابع عشر من آذار، في مهرجان الذكرى الثانية لاغتيال الرئيس رفيق الحريري، بما فيها من تصعيد كلامي باتجاه الداخل والخارج، لا بد أن تثير بعض الاشمئزاز والاستياء لدى سيد بكركي التواق إلى التوافق والتهدئة. وقد عبّر البطريرك الماروني عن هذا الامتعاض على طريقته لدى استقباله أمس وفد مخاتير قضاء بعبدا عندما دعا إلى أن «نقبل بعضنا بعضاً على علاتنا» وأنّ «نظرنا يجب أن يبقى مسمراً في بلدنا». ذلك أن البطريرك صفير مدرك تمام الإدراك لأمرين على جانب كبير من الأهمية:
1ــ إن سوريا التي لها حدود طويلة مع لبنان وتمثّل نافذته الوحيدة البرية على العالم العربي، قادرة على خربطة الوضع الأمني والسياسي في أية لحظة، وبالتالي ليس من الحكمة استفزازها، من غير أن يعني ذلك التعامي عن الانتهاك للسيادة اللبنانية. لذلك، ومنذ انتخابه سنة 1986، درج سيد بكركي على المطالبة بسيادة لبنان واستقلاله وقراره الحر، وبانسحاب القوات السورية منه في كلياً، لكن مع التأكيد مراراً وتكراراً على ضرورة إرساء أفضل العلاقات بين لبنان وسوريا. ودخل في الكثير من الأحيان في مواجهة مباشرة مع النظام السوري، وبخاصة مع نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام الذي وجّه له الرسالة التالية عبر النائب بطرس حرب سنة 1993: «ليلزم ديره ولا يتدخل في السياسة، ما شأنه والسياسة أصلاً»، وقال خدام حينذاك أكثر من ذلك مما لم ير النائب حرب من اللائق نقله إلى البطريرك صفير احتراماً له. وأوعز المسؤولون السوريون مراراً إلى حلفائهم في لبنان، ومنهم من أصبح معارضاً شرساً لهم بعد أفول نفوذهم عن لبنان، بالتصدي للبطريرك الماروني بسبب معارضته الصريحة والمبدئية للنظام السوري في لبنان. ومع ذلك لم يجد سيد بكركي بداً من قول ما لا يخدم القضية اللبنانية وإن كانت لا تنقصه البلاغة والشجاعة، وإن كان كلام التصعيد يلاقي دائماً استحسان القواعد الشعبية التي حثت البطريرك الماروني دائماً، لكن دون نتيجة، على اتخاذ مواقف نارية ضد سوريا وجيشها ونظامها.
2ــ إن المواقف المتشنجة ضد القوى المعارضة اللبنانية لا يستسيغها البطريرك صفير، خاصة أن الخلاف بين القوى السياسية ارتدى طابعاً طائفياً حاداً. وقد أضحى التصدي لهذا الحزب أو ذاك تصدياً لتلك الطائفة أو تلك. وأخشى ما يخشاه سيد بكركي أن يتعمق الانقسام الطائفي ويتحول نزاعاً مفتوحاً لا يعود بالإمكان لجمه حتى عندما يتصالح السياسيون يوم تدق ساعة الحل إقليمياً ودولياً وتتم دعوتهم إلى الجلوس مجدداً إلى طاولات الحوار وموائد الطعام غير آبهين بما حلّ بأتباعهم من الشعب اللبناني طوال فترة النزاع. ولا تنقص الأمثلة للتأكيد على ذلك، ففي فريقي الموالاة والمعارضة، على السواء، تحالف وثيق ومآدب بين قادة تقاتلوا بشراسة أثناء الحرب التي عرفها لبنان بين عامي 1975 و1990. من هنا الدعوة الملحة من سيد بكركي إلى أن «نقبل بعضنا بعضاً على علاتنا» وإلى أن يعمل القادة السياسيون على ترسيخ الألفة بين مناصري أحزابهم حتى لا يقع ما لا تحمد عقباه.
إن من يتابع الخطاب البطريركي يلاحظ أن لسيد بكركي موقفه من الاعتصامات في وسط بيروت ومن سلاح حزب الله، ومن محاولة تعطيل المحكمة ذات الطابع الدولي، ومن دور محتمل للاستخبارات السورية، لكن المتابع يلاحظ، أيضاً، تماماً كما خلال الأحداث والحروب التي عرفها اللبنانيون بين سنتي 1986 و1990، أنه عندما تقع المواجهات وتبدأ لغة التحدي والتصعيد التي غالباً ما صحبتها موجات عنف واقتتال، يتوقف سيد بكركي عن تحميل المسؤولية لهذا الطرف أو ذاك، ويرفع صوته ضد الجميع رأفة بمن يشكلون دائماً وقوداً لنزاعات السياسيين.