عفيف دياب ــــ رامي بليبل
لا يزال التوتر مخيماً على بلدة عرسال البقاعية على خلفية الإشكال الذي بدأ أول من أمس مع عودة عدد من أبناء البلدة المشاركين في مهرجان الذكرى السنوية الثانية لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري إليها. وقد طالت إحدى شرارات التوتر زميلين صحافيين تعرضا للرشق بالحجارة وحوصرا داخل مبنى بلدية عرسال

«الأزمة» بين عرسال والقرى المجاورة في تصاعد مستمر. اشتباكات مساء أول من أمس لم تنتهِ فصولها بعد. فالأمور أصبحت أكثر تعقيداً، والمعالجات السياسية، او النداءات المتكررة للهدوء، لم تعط مفعولها الناجع.. فالدماء التي سالت أول من أمس، وقبلها منذ أسابيع، لم تجف بعد. وهواجس القلق على «عيش» مشترك بين أبناء البقاع الشمالي هي المسيطرة والأدهى أنّ الصراع قد يتخذ اتجاهات لا يريدها أحد.
نجحت أمس، وأول من أمس، «بعض» الاتصالات السياسية والأمنية في «لجم» حدة التوتر وتبادل الرصاص و«الحجارة» بين عرسال وجوارها من قرى لا تقوى على العيش من دون عرسال، وأيضاً عرسال التي تعتبر نفسها اليوم «شبه» محاصرة أو معزولة عن سياسات لا تناسب منطقها السياسي. يشعر زائر عرسال اليوم بأنه مسافر الى دولة أخرى مجاورة لدولة لبنان الكبير. هذا الـ«لبنان» الذي أصبحت قراه وبلداته ومناطقه «جمهوريات» كبرى وصغرى لها «منطقها» السياسي الخاص وموقفها الذي تعبّر عنه بقوة ضد منطق وموقف «الجمهوريات» الأخرى.
عرفت عرسال «حياة» خاصة تميزها عن أقرانها وجيرانها في القرى الأخرى المجاورة. فـ«العرساليون» يفتخرون بأن بلدتهم من أكبر البلدات اللبنانية، إذ تبلغ مساحتها 450 كلم مربع (حوالى 4.5 في المئة من مساحة لبنان) وبالتالي هي «جمهورية» قائمة بحد ذاتها.
نجح «العرساليون» في تحدي الطبيعة والمناخ والارض القاحلة التي لا تنبت الا الصخور، وحوّلوا الجبال إلى مقالع وكسارات تعطي احجار زينة مميزة تعرف بالحجر «العرسالي»، الذي رفع آلاف القصور و«الفيلات» في لبنان، فيما لا يوجد في البلدة قصر واحد او فيلا مشيدة من «أحجارها» الجميلة. فبيوت عرسال صغيرة ومتواضعة ومتناثرة بشكل «فوضوي» تعطي مشهداً عاماً عن حال الفقر و«الوجع» المسيطر على البلدة القاسية في مناخها الصيفي والشتوي (ترتفع عن سطح البحر 1560م).
تغير «المزاج» في عرسال، وأصبح الرد على ما شهدته المنطقة أول من أمس» (على خلفية مهرجان 14 شباط) يطال كل زوار البلدة من «مذاهب» اخرى، وبغض النظر عما اذا كان الزائر يعشق عرسال وأهلها. فالهدوء الحذر يسيطر على البلدة وجوارها، وسياسات الرد والرد المضاد لا احد يعرف بعد من يتحمل مسؤوليتها، والاتهامات المتبادلة هي سيدة الموقف.
والأحداث الأمنية التي اختُتم بها يوم الرابع عشر من شباط في بلدات وقرى البقاع الشمالي لم تنته فصولاً، ولم تنطفئ النار المتأججة في قلوب أبنائها بعد الانقسام السياسي والمذهبي، وبات الجميع في ترقب وحذر شديدين. ينتظر الواحد منهم الفرصة لينقض على الآخر فيبرد فيه الجمر المشتعل في صدره معلناً انتصاره الكبير، في الوقت الذي يكون فيه قد أشعل معركة تطال نارها الجميع.
محاصرة صحفيين
في جولة لمراسلين من «الأخبار» والزميلة «السفير» في بلدة عرسال، تلك المنطقة النائية المحرومة من أي اهتمام، لوحظت علامات الغضب والعنفوان التي ترتسم على جباه الأطفال والنسوة قبل الرجال والشيوخ. المدارس أغلقت أبوابها استنكاراً للحادث وتيار «المستقبل» ينشط لإحصاء الأضرار، على أمل أن يتم التعويض على المتضررين كما يقول أحدهم. وصل المندوبان إلى مبنى البلدية الواقع في وسط البلدة. جرت دردشة مع رئيس البلدية باسل الحجيري واستعراض لمجريات الأحداث الأمنية وسبل معالجتها وآثارها على لقمة عيش أبناء المنطقة ككل.
انتهت المقابلة وودع المراسلان الحضور. ركبا سيارتهما التي توحي بتقاسم الحال مع أبناء عرسال، وانطلقا قاصدين خط العودة، قبل أن يلاحظا أن سيارة بيك ــــ آب شفروليه بيضاء اللون تتحرك أمامهما عندما يتحركان وتتوقف عندما يتوقفان. ومن خلال مرآة السيارة الداخلية، لاحظا سيارة من طراز «فولفو»، خمرية اللون، تتعقبهما من الخلف. أحسّا بأن أمراً غريباً يحصل. حاولا التفلت من السيارتين وعادا أدراجهما إلى مبنى البلدية. في طريق العودة، التقيا سيارة البلدية، ورويا لركابها ما حصل معهما، فواكبوهما. لكن المطاردة استمرت وتطورت إلى رشق بالحجارة التي بدأت تنهال على زجاج السيارة الأمامي. زاد المراسلان من سرعة السيارة وعادا إلى البلدية، حيث «حوصرا» هناك لأكثر من ساعتين ونصف ساعة، حاول خلالها رئيس البلدية ترطيب الأجواء وتأمين الطريق للزميلين» لكن محاولاته باءت بالفشل، وبات هو في دائرة الخطر، بعد أن رفع أحد «المحاصرين» السلاح بوجهه. كل المحاولات التي قام بها كبار أهل عرسال لم تحظ بالنجاح إلى أن حضر مختار عرسال عبدالله الحجيري الذي استطاع أن يهدّئ من روع الشباب «الثائر»، ويصحب الزميلين معه إلى منزله، إلى أن هدأت الأحوال. كما حضر عناصر من فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي، قاموا، مع عدد من أبناء البلدة، بتأمين سلامة الزميلين حتى خروجهما من عرسال ووصولهما إلى بلدة اللبوة، حيث توجها كل منهما إلى منزله في الهرمل.
هذه الحادثة هي صورة طبق الأصل عن كثير من الأحداث التي حصلت في الآونة الأخيرة والتي ستحصل في المستقبل إذا استمر النزاع السياسي في تصعيده المذهبي والطائفي في البقاع الشمالي، الذي يتجه نحو «الأمن الذاتي» وإقامة المربعات الأمنية التي باتت بوادرها ظاهرة للعيان. ويؤكد رئيس بلدية عرسال باسل الحجيري أن «المطلوب أن يكون بعضنا حريصاً على بعض وأن نفصل بين قناعاتنا السياسية وبين كوننا أبناء مصاهرة وأهل منطقة واحدة يجمعنا الحرمان وبيننا تبادل تجاري واقتصادي لا يستمر من طرف واحد» وقال: «مع احترامنا واعتزازنا بالجيش اللبناني لكننا نطالبه بأن يقوم بدوره». وختم: «مع كل الذي حصل نحن حريصون على أن لا يغلق الباب بيننا». وكان مخاتير وفعاليات عرسال قد عقدوا اجتماعاً استنكروا خلاله الأحداث التي حصلت، كما عُقد اجتماع برئاسة قائمقام بعلبك في عرسال لتقويم المشهد الأمني والسياسي الأخير.
ومع أنه لم يتبنَّ أي من أبناء اللبوة أو عرسال مساعي للتهدئة والصلح إلا أنه سيصار إلى عقد اجتماع بين أبناء البلدتين قريباً برعاية أمنية بعد أن فشلت السياسة.