جوزف سماحة
يعيش لبنان مواجهة سياسية بين معسكرين. يبقى الوصف ناقصاً واختزالياً ما لم نضف إليه أن كل معسكر يتكوّن من حساسيات مختلفة بعض الشيء ولو أنها وجدت نفسها، لحسابات متعدّدة، متلاقية حول الكثير. صحيح أن جداراً عازلاً كان يفصل، يوم 14 شباط، بين المتظاهرين والمعتصمين، لكن الصحيح، أيضاً، أن من يكلّف نفسه عناء التدقيق يكتشف جدراناً فاصلة، ولو واهية وغير منظورة، تخترق كلاً من المتظاهرين والمعتصمين. وإذا كان العلم والنشيد الوطنيان يظللان الجميع فلكل حزب علمه ونشيده.
الأمر طبيعي. كان العكس سيكون غريباً. الحساسيات المختلفة سببها تباين الأحجام، والأيديولوجيات، والانتماءات الطائفية والاجتماعية، والعلاقات الإقليمية والدولية، وإرث الماضي، ونوعية القيادة، إلخ...
ينطبق هذا التقدير على المعارضة طبعاً. «حزب الله» و«أمل» يتقاطعان ولا يتماهيان. وكذلك «المردة» و«التيار الوطني الحر». ويصعب جداً أن نجد تطابقاً بين الداعية فتحي يكن والحزب القومي.
لم تشأ الموالاة أن ترى هذا التعدّد. تعامت عنه قصداً لذرائع تفيدها واستمرّت تروّج لـ«حزب الله وملحقاته» متجاهلة عدم انطباق الوصف على الواقع.
ينطبق التقدير المشار إليه على الموالاة. «المستقبل» و«الاشتراكي» و«القوات» و«الكتائب» والتكتل الطرابلسي وشخصيات «قرنة شهوان» موجودة كلها في سلّة واحدة، لكنها موجودة بصفتها كائنات مستقلّة ومتمايزة. لكل من هذه الأطراف حجمه ضمن بيئته، وتاريخه السياسي أو الميليشياوي. وما يقال عن هذه القوى يقال عن المعارضة حيث نجد من هو قادم من ماضٍ صراعي إلى حاضر تحالفي.
وربما كان علينا أن نتذكر أننا في حضرة معسكرين حديثي العهد في التكوّن لم يتح لهما الوقت الكافي لإرساء تقاليد، وبناء شبكة علاقات قاعدية، وتطوير مضمون برنامجي متجانس. ويحق لنا أن نفترض أننا، بعد فترة، قد نشهد خلطاً للأوراق وانتقالاً من موقع إلى آخر، وتبديلاً في التحالفات. وتزداد السهولة في ذلك من أن أحزاباً في لبنان باتت كتلة صمّاء تستدير كما يُشاء لها أن تفعل.
لا يجوز للانقسام الأكبر، إذاً، أن يحول دون رؤية التمايزات. ولقد أدّت هذه إلى بروز أواليات خاصة لإدارة العمل شبه الجبهوي. ولقد بات معروفاً أن في كل معسكر، قوى تملك كلمة راجحة، وأنه يكفيها أن تتلاقى وتتوافق حتى يصبح في إمكانها جذب حلفائها إليها. لا نستطيع أن نتحدث عن هيئة أركان واضحة ومنظمة تقود أياً من الفريقين، إلا أننا نعرف أن قدراً من التنسيق والتشاور يحصل يومياً ولو أنه لا يحظى بالتغطية الكافية حيث يمكن لصدور بيان أو إعلان موقف أن يسرق الأضواء عن خلفية إنتاجه.
بناءً على ذلك يجدر تقديم ملاحظتين.
تخص الأولى المعارضة. نعم ثمة تلاقٍ في الأهداف السياسية شهد دفعة قوية عبر التفاهم الثنائي بين «التيار الوطني» و«حزب الله». ويمكن الزعم أن التدرّج من شعار حكومة الوحدة الوطنية إلى شعار الانتخابات النيابية المبكرة حصل بعد نقاش أثمر اتفاقاً. لكن، في مقابل ذلك، كانت تطفو إلى السطح خلافات خاصة بوتيرة التحرّك وأشكاله ووسائله. هناك مستعجلون لأي «إنجاز» بناءً على حسابات خاصة بهم، وهناك من يدعو إلى البطء ومدّ التحرّك في الزمن. هناك من يعاني ضعف القدرة على الانضباط وهناك من يستطيع أن يمارسه. هناك من ينزلق نحو الاستفزاز أو رد الاستفزاز وهناك من يمتنع. هناك من يميل إلى شعارات معيّنة يمجّها طرف آخر لا بل يرفضها لأنها تجافي ثقافته وتحرجه أمام جمهوره.
أكثر من ذلك، هناك من يوازن بين تحرّك اعتراضي، ذي طابع انشقاقي حكماً، وبين حرص كبير على السلم الأهلي وتجنّب الفتنة وإدراك أن أي حل سياسي سيعيد وضع المختلفين إلى بعضهم جانب بعض. لكن هناك من يميل إلى قبول المجازفة بقدر من التوتير إذا كان ذلك، في اعتقاده، مدخلاً إلى التسريع. وأخيراً، ثمة أصوات على الهامش تعتقد أنه لا بد من غالب ومغلوب.
أما الملاحظة الثانية فتخص الموالاة. ينطبق عدد من الملاحظات السابقة على قوى الموالاة. إلا أن في الإمكان إضافة شيء آخر ظهر واضحاً في مهرجان 14 شباط. نستبعد فرضية توزيع الأدوار لنقول إننا سمعنا تنويعات يصعب إدراجها في سياق سياسي واحد. لم يكن «الفرسان الثلاثة» للموالاة على موجة واحدة تماماً. لم يكونوا، أيضاً، على تناقض لأن الجذع الذي يجمعهم راسخ وقوي. وإذ يمكن أن يمثّل خطاب سعد الحريري عرضاً تفاوضياً أوليّاً مقبولاً فإنه يبطل أن يكون كذلك إذا أضيف إليه موقف من حكومة الوحدة الوطنية أكده أحد الأركان وموقف من العلاقات اللبنانية ـــ السورية أكده ركن آخر. لقد جرى التعبير عن تعدّدية ما ضمن فريق 14 آذار هي، في العمق، تعدّدية مفهومة بحساب المصالح والمواقع وقدرة كل طرف على استكشاف «حصته» في أي توازن جديد يمكن أن تقود إليه التسوية.
نخلص من ذلك إلى أن المعارضة تحتاج إلى ضبط إيقاع تحركها بصرامة أكبر فيما تحتاج الموالاة إلى صرامة مماثلة لضبط شعاراتها. وبما أن تجربة الشهرين والنصف أوحت أن إيقاع التحرّك بمثل أهمية الشعارات السياسية فإن المسؤولية موزّعة على الطرفين في ما سنعيشه في المرحلة المقبلة.
جوزف سماحة