أنسي الحاج
قد يعرف الشعب الثمن الذي يدفعه في الفتنة ولكن هل يعرف الأثمان التي يتقاضاها مفتنوه؟ هل يعرف الأنخاب التي يرفعونها؟ هل يعرف وجوههم ومَنْ يُمسك بأيديهم وبخناقهم إذا صودف أن أبدى وجدانٌ لهم حراكاً؟ يَحْسَب الظواهر جواهر. يُكْذَبُ عليه كزخّ المطر. يُجهل عليه من كل فجّ عميق. يقبّل أيدي سلّاخيه ويصفّق لمؤامرات باعته. يُسبّح ذابحيه ويظن دمه المنقّط من سكاكينهم دم عدوه. «وعي الشعب» إعلان عن مادة وهميّة. في الشعب طيبة وحَدْس، صبْر وغريزة، لا وجود للوعي. ولا في شعب. هناك تراكم ثقافي عند شعوب لكنه لا يصل الى حد الوعي بالمعنى الوافي لهذه الكلمة. كل الشعوب قابلة للفتنة.
على هذا تعوّل إرادة السيطرة، الاستعمار، الاحتلال.
فتنة بالإيجار أو بالعقيدة، بالخوف أو بالكراهية، بالتعصّب أو بالتعصّب، الذرائع غير مهمّة. حين يُفَلَّت السيل يصبح الجميع نقاطاً في مائه.

ربّما، إذا تخلّصنا من الأمل، نستطيع الحراك.

هل نحن هو هذا الشعب نفسه الذي طَلَعت من بين طبقاته تلك الحناجر الساحرة التي غنّته كما لم يُغنَّ الآلهة، وغنّت سواه من الشعوب كما لم تَحْلم؟ الشعب نفسه الذي قيل إنه صنع نهضة القرن التاسع عشر؟ شعب الرؤوس؟ شعب الأنوار؟ شعب الشعوب؟ من يصدّق أن هذا المجتمع الذي يتحاكى زعماؤه اليوم علناً بالفتنة وكأنها شرْبة ماء، كان هو نفسه طليعة الشرق في التحرير والتحرر والإبداع والريادة؟ كيف يكون عمره آلاف السنين وعقله مُقمّط بالضباب؟ أيّهما الزائف: الماضي أم الحاضر؟ كلاهما!؟

بضعة عصافير باقية على الحائط، تظنه بيتها إلى الأبد. تُكَنْكن هنا في أعشاش الحُفَر والزوايا، تزقزق للصباح وللقرميد، تُلاعب الفراغ وكأنه الدنيا.
كنتُ أحسد العصافير لأنها تطير. لم أكن أعلم أنها ترتبط وتلتصق. مدعاةٌ أخرى للقلق. أَمَا من كائنات مقتلَعة الجذور تفرح وتنبض بعد انقلاعها؟ أليس هناك أشجار لا تيبس إذا أُعْتِقت من جذورها؟ أما من حياة إلا في السجن!؟

مَنْ يحتمل الآخر الضوء أم الهواء؟
من يحتاج أكثر إلى الآخر الصوت أم الأذن؟
فسحة غموض يعود فيها الإنسان أدراجه إلى مَسْقط المساقط.

الرهبة لم تكن رهبة قبل التسمية. لعلها كانت ذهول أول إنسان شاهد أول غروب للشمس.

دَبَق الانتماء، نتباهى به لنُحايل الاختناق. كشخص يفاخر بشيخوخته.

في مطلع الصبا يهجم المتشنّج على عمر بن أبي ربيعة أو كازانوفا مؤثراً على الماجنين أمثالهما نموذجَ الفاجع المُزْرَقّ دون جوان تينوريو. قبيل المغيب تحصل المراجعات، وليست كلّها تخريفاً. عُمَر الدعيّ أو كازانوفا السطحيّ، ليكن. لكنهما أمتعا نساءهما ولم يتركا في الغالب سوى الشكر. قد يقف تمثالا هاملت ودون جوان على قمم الأزمنة يحدجان المُطْلَق بنظرات التنديد والتيه، وهو شأن خطير، أما العابثان القابعان موضع تندّر عند السفوح، فإن طيفهما كلّما استُعيد حمل معه رحمة الخفّة.

كفاحُ عُمْركَ ضدّك: كارهكَ لم يكره فيك سوى غريب عنك ومحبّكَ استهواه فيكَ سواك.

الموت نَفْسه يعافكَ ما لم تدفع ثمنه.

إنارة السرّ لا لمساواته بباقي المرئيّات بل للاستمتاع بجمالاته، ولزيادته سرّاً. ذلك هو الشأن الأرفع للنظر، للنقد، للأذن. السرّ أن يتحدّى رغبتكَ في هتكه. أن يتلقّاها ويصمد بعد الضربات. أن يعود بكراً فوراً كما في الوعد.

المشكلة في الدين هي البشر لا الآلهة.
يَجْمح الديني في الإنسان كلّما تَحسس هشاشة البَشَريّ فيه. وكلّما كره وضعه ازداد اضطهاده لنفسه، لجنسه. ينقسم هذا الموقف بين صنفين: المستمتع بالاضطهاد الذاتي على سبيل اللذة أو الفداء والتكفير، والآخر، الذي يفضي به احتقار وضعه البشريّ إلى بغْض البشريّة واستحلال استعمالها.
بين الشفقة والبَغي. بين السجود والدم.
لا يعود المؤمن الى رشد العلاقة السويّة بالطاقة الكونية الكبرى إلا لحظة الهدوء المُطْلَق التي يفرضها صمت المواجهة المصيرية.
مواجهة الموت، أو الفراغ التام فجأةً، أو عين العزلة.

جلّاد نَفْسه،
جلّاد غيره،
مجلود نفسه،
مجلود غيره...
أعْذَبُهُ أعمُّه، وأعذب الأعذب عديم الأثر فيُستعاد فوراً.

الكتابة أيضاً من المظاهر.
يَكتب مَن يَبحث، أما الواجد فقلّما يتكلّم، وإن فعل فكي يغيّر الموضوع، أو ليقول كلمة من نوع اللفظ ــ الفعل، أو القول ــ الحكْم. الواجد مصعوق.

هدير الشلّال، وجيج بابور الكاز، وشيش شاشة التلفزيون عندما تتوقف البرامج ويرجع الفضاء، العَصْف الغامر، كلّها آباء يدفئون الطفل من صقيع عدم الاهتمام، كلّها أحبّاء يهمدون حرائقه، يَطردون وحوشه، كلّها أمّهات يُهَدْهدنه حتّى يتخدّر وينام محاطاً بأنسٍ لا ينام.

أرض اليأس الصلبة شُرفة كالبيدر. سَقْفها سماء بلا سقف. الأرض العالية. لونها لون الكرامة وطعمها طعم الحريّة. الابتسامة هنا معصورة بالحنان. اللحظة مأكولة ومُشْبِعة كقربان القداس. مشروبة ومالئة كنبيذ القدّاس. أزهارها المشرقة تُشْرق أكثر بعد القَطْف.

في الرأس كوّة سرّية ربما لا يخرج منها العتم ولا تتّسع لاستقبال الشمس لكنّها تَفتح، عند الشدّة، على هواء الجبل.

تستطيع البشاعة أن تنتظر. لا تستطيع أنت أن تنتظر حين يمرّ الجَمال.

يتواعد الثأر وطالبه كما تتواعد المعجزة ومرتجيها. بعد أن يتمّا، يصعب تمييز الرضى من الخيبة والحبور من الملل.

كون الأرض ستضمّنا في ترابها ليس برهاناً على أننا كلانا من أبنائها. لا النهاية برهان على البداية ولا العكس. وراء برقع المساواة تتوزّع المصائر. أرضنا ليست واحدة وترابنا ليس دوماً تراباً.