نقولا ناصيف
يرسم قطب بارز في قوى 14 آذار صورة تميل إلى التشاؤم بإمكان التوصل إلى تسوية وشيكة بين الغالبية الحاكمة والمعارضة نتيجة الجهود التي بذلت في الأسبوعين الأخيرين، وأوحت على مَرّهما أن الحوار غير المعلن بين الفريقين حقق تقدّماً ملموساً غير متوقع عبّرت عنه سلسلة مواقف أشاعت انطباعات إيجابية لدى الطرفين. ثم بدا من خطاب رئيس الغالبية النائب سعد الحريري في ذكرى اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط، أنه يترجم ما كان مكتوماً حتى ذلك الوقت.
ويعزّز القطب البارز في قوى 14 آذار وجهة نظره هذه بسلسلة معطيات رافقت الأيام الأولى من مساعي الأسبوعين المنصرمين، عندما تلقّى الحريري، وكان لا يزال في زيارة للرياض، مكالمة هاتفية من السفير السعودي في بيروت عبد العزيز خوجة أطلعه فيها على فحوى اجتماع عقده مع رئيس المجلس نبيه بري، وتركزت نتائجه على بندين لمس فيهما السفير مرونة من المعارضة، ورغب إلى الحريري في التقاط الفرصة ومعاودة الحوار وإن غير المباشر:
أولهما تأكيد المعارضة أن التعديلات التي تعتزم اقتراحها لتعديل مشروع المحكمة ذات الطابع الدولي في اغتيال الرئيس السابق للحكومة لن تكون جوهرية إلى حدّ مس ما يُتوخى من إنشاء محكمة ذات طابع دولي، وهي تعديلات قابلة للمناقشة والتفاهم، ومن شأنها توفير ضمانات متبادلة يحتاج إليها الطرفان. ترافق ذلك مع تأكيد المعارضة، وحزب الله خصوصاً، أنه لا يرفض المحكمة الدولية.
وثانيهما أن التسليم بحكومة وحدة وطنية وفق معادلة 19 + 11 تمنح المعارضة الثلث زائد واحداً، ستقابله هذه بتفهّم موقف الغالبية، بحيث يكون الوزير الحادي عشر ممن لا يثير حفيظتها، وتالياً فإن المعارضة ستختار هذا الوزير بمرونة لا تجعله يشكّل استفزازاً للطرف الآخر.
تبعاً لهذه المعطيات، التقى الحريري في الرياض وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل ورئيس مجلس الأمن الوطني السعودي الأمير بندر بن سلطان اللذين نصحا له، في ضوء ما أسرّ به السفير السعودي، بالعودة إلى بيروت والدخول في جولة جديدة من التفاوض مع المعارضة.
وانسجاماً مع ترحيب المملكة بمعاودة قنوات الحوار بين الغالبية والمعارضة توصلاً إلى تفاهم داخلي يحول دون انفجار مذهبي، ويعيد تصويب النزاع الداخلي في أطره الدستوري وعبر الاتصال المباشر، اجتمع موفدان لبري والحريري في خمسة لقاءات كان آخرها في 13 شباط، عشية إحياء الذكرى الثانية لاغتيال الحريري الأب. وتركزت مداولات الاجتماعات هذه على تبادل الأفكار والمقترحات انطلاقاً من قاعدة مزدوجة للحل:
ــــــ التزامن بين إقرار المحكمة الدولية وتأليف حكومة وحدة وطنية.
ـــــــ تأليف لجنتين من ممثلي الفريقين: أولى تختص بالمحكمة الدولية وتتولى مناقشة مقترحات التعديل التي تطلبها المعارضة لإدخالها في مشروع القانون، وأخرى بتأليف حكومة وحدة وطنية عملاً بقاعدة 19 + 11.
تدريجاً تأكد لكل من طرفي النزاع أن عامل فقدان الثقة لا يزال يلقي ظلاله على اجتماعات لجنة المتحاورين بعدما أسهب كل منهما في إيضاح مفهومه لمهمة لجنة تأليف حكومة الوحدة الوطنية: قبل ممثل الحريري بإقرار مبدأ حكومة 19 + 11 تمنح المعارضة الثلث زائد واحداً، على أن يُخاض في تفاصيل المرحلة التالية، أي توزيع الحقائب الوزارية، بعد الاتفاق على الصيغة النهائية المعدّلة لمشروع المحكمة الدولية. أما ممثل المعارضة، بحسب القطب البارز في قوى 14 آذار، ففضّل مباشرة البحث في توزيع الحقائب بالتزامن مع مناقشة التعديلات على مشروع المحكمة الدولية، بعد أن تكون الغالبية قد سلّمت سلفاً بمبدأ منح المعارضة الثلث زائد واحداً في مقابل إنهاء هذه اعتصامها المفتوح وانسحاب أنصارها من ساحتي رياض الصلح والشهداء، وإخراج الشارع نهائياً من التجاذب وإعادة الحياة إلى طبيعتها في وسط بيروت.
لم يوافق الحريري على تفسير التزامن كما عرضه ممثل المعارضة، وأبلغ إلى محاوريه من الطرف الآخر، استعداده لإعلان موافقته المبدئية على حكومة 19 + 11 بالتزامن مع بدء اللجنة الأولى المعنية بمشروع المحكمة الدولية مهمتها، حتى إذا انتهت منه وأقرّت الصيغة النهائية المعدلة لهذا المشروع عمد فريقا النزاع إلى توقيع ورقة اتفاق بذلك لا يُعلن عنها وتطوى إلى أن يتمّ الاتفاق على توزيع حقائب حكومة الوحدة الوطنية. وعندئذ يُكشف عن الإنجازين في وقت واحد، أي الاتفاق على المشروع المعدّل للمحكمة الدولية وحكومة الوحدة الوطنية. ويؤدي التزامن بينهما إلى إتمام مقايضة متكافئة بين طرفي النزاع، وقد حصل كل منهما على الضمانات الكافية المتصلة بالأولوية الجوهرية لديه (المحكمة الدولية للزعيم السني، وحكومة الثلث زائد واحداً للمعارضة). تالياً، يصار إلى إقرار مشروع المحكمة تبعاً للأصول في الحكومة الجديدة. إلا أن هذا الإقرار لن يعدو كونه تخريجاً قانونياً لما يكون قد كرّسه الاتفاق الجانبي الذي وقعه الجانبان للحؤول دون الإخلال به.
استناداً إلى هذه المعطيات، فإن موقف الحريري يكون قد أفضى إلى استنتاجين:
ــــــ أنه قدّم تنازلاً رئيسياً في موقف رفضت الغالبية منذ أيلول الفائت التخلي عنه عندما طالب به حزب الله للمرة الأولى، وهو الحصول على الثلث زائد واحداً في حكومة الوحدة الوطنية، وضاعف في ما بعد من ضغوطه في سبيل الحصول عليه وإن بالقوة، من خلال الاعتصام المفتوح في وسط بيروت منذ الأول من كانون الأول المنصرم.
ــــــ أنه يفاوض الطرف الآخر دونما تجاهل لحلفائه في قوى 14 آذار، ولا سيما الشريكين القويين والأكثر تطرّفاً في المواجهة مع المعارضة، وهما رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط ورئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع. وتبدو هذه الإشارة، في تقدير القطب البارز في قوى 14 آذار، رداً على خطابي الرجلين في 14 شباط على أنهما كانا أقرب إلى تقاسم الأدوار والمواقف مع الحريري: شتم جنبلاط النظام السوري ورئيسه بشار الأسد لا حزب الله، وهاجم جعجع الرئيس إميل لحود الذي يجلس في الحديقة الخلفية للمعارضة. بذلك يكون الرجلان قد أجريا تصفية حسابات شخصية على الملأ قبل أن تكون سياسية: الأول مع النظام الذي يشعره بأن حياته مهدّدة في أي لحظة، والآخر مع رئيس الجمهورية الذي يحول دون إعطائه مكسباً سياسياً فعلياً داخل طائفته وهو خلعه، وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة يكون جعجع ناخباً رئيسياً فيها.
لكن الصورة القاتمة التي يرسمها القطب البارز في قوى 14 آذار حيال ما آلت إليه الجهود الأخيرة، لا تحول دون توقعه زيارة الحريري لبري في عين التينة قريباً، في ضوء ما سيعود به من الرياض.