جان عزيز
ارتياح كامل الى كل ما ظهر في احتفال 14 شباط، وبعض القلق من مخططات كانت معدة للمناسبة ولم تظهر... تلك هي انطباعات المعارضة المسيحية حيال إحياء الذكرى الثانية لاغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري.
وتستعرض أوساط قيادية عليا في القوى المسيحية المعارضة، دواعي الارتياح أولاً، فتفصّلها كالآتي:
1 ـ لجهة الحشد وأعداد المشاركين في الحدث، تبيّن أن الساحة التي استضافت المناسبة، تبلغ مساحتها نحو 46 ألف متر مربع، وذلك استناداً الى قياس علمي هندسي دقيق. وبالتالي فإن الحد الأقصى للجموع التي كانت حاضرة وسط بيروت، هو نحو 135 ألف شخص، في أحسن الأحوال، ومع الجنوح نحو الهامش الأعلى من حساب التقدير.
2 ـ لجهة المشاركة المسيحية، تبدي هذه الأوساط ارتياحها الكامل الى حجم التعبئة والحشد الذي بلغه مسيحيو السلطة. وتستند في اطمئنانها هذا الى عملية رصد دقيق أجرته لجميع نقاط انطلاق المشاركين المسيحيين، من أنصار الشخصيات والقوى المسيحية الموالية. وتعطي الأوساط نفسها جردة مفصلة بأحجام هذه التجمعات في مختلف المناطق التي جاءت منها، لتخلص الى الإعراب عن اطمئنانها العميق الى الحجم الفعلي لمسيحيي «فريق 14 آذار». أما عن القراءات المغايرة لهذه الناحية بالذات، فتؤكد الأوساط المعارضة أن رصدها لحركة يوم 14 شباط الماضي، بات حافلاً بالتوثيق المصوّر لحافلات ومشاركين من انتماءات غير مسيحية، حمّلوا رايات تابعة لأحزاب مسيحية. علماً أن الأوساط نفسها تعترف وتقر، بأنه في مناسبات سابقة للتحالف المعارض، سجلت حالات كهذه، إذ انبرى عدد من غير المنتمين تنظيمياً الى تيار مسيحي معارض كبير، الى ارتداء شاراته وألوانه.
لكن الفارق في هذه المسألة مزدوج: أولاً إن هذه الحالات كانت فردية وطوعية، ثانياً إن ثمة منتسبين فعلاً من غير المسيحيين، الى التيار المقصود. الأمران المعكوسان تماماً في حالة احتفال 14 شباط، إذ من المعروف أن لا انتساب من غير المسيحيين في أحزاب السلطة المسيحية، كما أن تحميل البعض يوم الأربعاء الفائت أعلاماً ورايات عائدة الى غير أحزابه، كان عملية منظمة، اعترف بها قيادي بارز في أحد أحزاب الجبل الموالية.
3 ـ لجهة مضمون الكلمات التي ألقيت تعبرّ القوى المسيحية المعارضة عن أكثر من داع للارتياح. فالتباين الذي ظهر في مواقف سياسييّ السلطة، يمثّل في حد ذاته مؤشراً ايجابياً، أياً كانت خلفياته وقراءاته الحقيقية. فهو في حال كونه توزيع أدوار، يظلّ مؤشراً الى إحساس فريق السلطة بضعف موقعه وموقفه وميزان القوى لناحيته، ما دفعه الى التوزيع المفترض المذكور. أما إذا كان التباين نفسه معزوّاً الى تمايز الحسابات لدى كل من مكوّنات السلطة، فهو في هذه الحال إشارة أكثر إيجابية، ذلك أنه كشف هوية القوى القادرة على إبرام الحلول وإنجاز التسويات، وفرز تلك العاجزة عن ذلك. وانتهى هذا الفرز الى حقيقة مفادها أن القوى ذات التمثيل الشعبي الأساسي مستعدة للقرارات الشجاعة، بينما القوى ذات الحضور المضخّم أو المفتعل، فمتضررة من أي حل وتنحو الى العرقلة. علماً أن هذا الفرز شكل عاملاً إيجابياً مساعداً على المعالجة، ومطمئناً الى آفاقها، في حال نضوج العوامل اللازمة لإنجازها إقليمياً ودولياً.
4 ـ لناحية لغة بعض الخطابات وشكلها و«أدبها» السياسي، تعترف الأوساط المسيحية المعارضة ببسمة واضحة، بأن أصحاب تلك الكلمات أسدوا اليها خدمات لا تثمّن، سياسياً وإعلامياً وشعبياً. ذلك أن المستوى غير المسبوق في تدنّي اللغة الخطابية المستخدمة من البعض، انعكس إيجابياً، ولمصلحة القوى المسيحية المعارضة في الأوساط الشعبية المحايدة، او المترددة. ذلك أن صوراً قديمة ومستقبحة قفزت فوراً الى ذاكرة الناس وأذهانهم. مثل صور اللغة نفسها، عن الأشخاص أنفسهم، ضد بكركي والمقدسات المسيحية كافة في مراحل سابقة، وبالتالي فإن الانطباع المتكون لدى الرأي العام المسيحي يوم 14 شباط، أن لغة الانحطاط السياسي لا تزال معتمدة، ما يعني احتمال تبدل أهدافها في أي لحظة، كما تؤكد التجارب والتاريخ الحاضر.
ولا تخفي الأوساط المسيحية المعارضة شعوراً عميقاً لديها، بالرضى الناجم عن ظهور حقها وصدقيتها لهذه الناحية بالذات، على صعيدين اثنين على الأقل: أولهما لجهة أي موقف سيكون لبكركي وسيدها و«ميثاقها» من لغة التخاطب التي اعتمدها البعض يوم 14 شباط، وثانيهما الإدراك الفعلي، كما عبر أحد أبرز قادة المعارضة أن من يكون لديه خصوم كهؤلاء، قد لا يكون في حاجة الى أصدقاء أو حلفاء، مع ما لهذه المعادلة من دلالات مختلفة وبعيدة... لكن هذا الرضى لا يزيل حشرية الأوساط نفسها إزاء إبقاء السؤال مطروحاً برسم الصرح البطريرك الماروني: ما رأيك في ما سمعت؟
... وبعد دواعي الارتياح هذه كلها، لماذا القلق إذن؟ تستعيد الأوساط المسيحية المعارضة للإجابة عن هذا السؤال، شريطاً كاملاً من الأحداث المستورة والمخيفة، التي رافقت إجراءات الإعداد لمناسبة 14 شباط: كان ثمة من يفكر في افتعال فتنة في هذا اليوم. لم نتأكد مما اذا التخطيط الجهنمي لبعض قوى السلطة، قد بلغ حد التفكير في اجتياح ساحة اعتصام المعارضة. لكن المؤكد أن مراكب وزوارق بحرية استؤجرت، ومُلئت بحمولة من عدة الشغب ولوازم الفتنة، وجُهزت للتنفيذ في ساعة صفر ما. ولا تستبعد الأوساط نفسها أن تكون قيادة الجيش قد اطّلعت على تفاصيل تلك التحركات، وهو ما دفعها الى تشديد إجراءاتها بين الساحتين، ورفع الساتر وتعزيز العديد الأمني المتأهب لقمع أي محاولات تخريبية. هل يُعقل الكلام عن مخططات كهذه؟ تبدو الإجابة مرتبطة بوجود فعل العقل نفسه، أو عدم وجوده، وبكيفية استخدامه ووجهته في حال الوجود.