جوزف سماحة
روبرت ساتلوف هو مدير «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى». وهو، فضلاً عن كونه كاتباً «محبّباً» إلى قلوب عدد من المحلّلين اللبنانيين، صاحب مصطلح «الفوضى الخلّاقة». مقاله الأخير عن «اتفاق مكّة» يميل إلى التشاؤم ويكاد يقطر حزناً على نجاح الفلسطينيين في تفويت فرصة الحرب الأهلية. وضع عنواناً للجزء الأول من المقال «اتفاق مكّة: انتصار الوحدة على التقدّم». والفحوى أن الفلسطينيين مارسوا تقليداً يعرفونه عندما غلّبوا وحدتهم الداخلية على تقدّمهم نحو أهداف استراتيجية. لا ندري من أين استنتج ساتلوف إمكان التقدّم نحو أهداف استراتيجية عندما نتذكّر مشهد غزّة عشية التوجّه إلى «لقاء مكّة». ولا ندري، خاصةً، إذا كان يصدّق أننا نصدّق ميل الولايات المتحدة وإسرائيل نحو تلبية هذه الأهداف. ساتلوف رجل حزين لأن الفلسطينيين تجاوزوا، ولو مؤقّتاً، فوضاه الخلّاقة.
يمضي الرجل، في الجزء الثاني من مقاله، إلى تصنيف الرابحين والخاسرين من «اتفاق مكّة» ليصل إلى نتيجة تقول إن «الأفق السياسي» الذي كانت تريد كوندوليزا رايس فتحه على المسار الفلسطيني بات مغلقاً. لم تمض أيام حتى كانت رايس نفسها تتحدّث عن «تعقيد مهمتها» بعد «اتفاق مكّة» مستعيدة جوهر ما سبقها إليه الباحث الأميركي القريب من اليمين الصهيوني.
كان يمكن وزيرة الخارجية الأميركية الزعم أنها حقّقت نجاحاً جزئياً ضمن الإدارة عندما أقنعت جورج بوش بضرورة زيادة الاهتمام بالنزاع الإسرائيلي ـــــ الفلسطيني. ومرد النجاح أنها وضعت ذلك في سياق ما تسمّيه «إعادة الاصطفاف» إقليمياً، أي إنشاء محور «الاعتدال العربي» لمحاربة «التطرّف». إيقاف هذا المحور على قدميه مشروط بدور أميركي في «القضية المركزية»، وكذلك دفع المحور نفسه نحو سياسة نشيطة ضد «المتطرّفين» في لبنان وفلسطين والعراق مع إسهام مباشر من المعنيين في البلدان المشار إليها.
غير أن رايس كانت تدرك أن «فتح الأفق السياسي»، أي عملياً البحث في قضايا الحل النهائي وتجاوز «خريطة الطريق»، يصطدم بواقع المقاطعة للسلطة الفلسطينية ومطالبتها بتلبية شروط معيّنة. لذا كان لا بد من شطب «حماس» أو تطويعها تماماً. ولذا بادرت واشنطن إلى تأمين مساعدات مالية وتسليحية لمن أراد خوض اختبار القوة في غزة ضد السلطة. ولكن، عندما بدت ملامح الحرب الأهلية، ولمّا تأكد العجز عن أي حسم، تهيّب الفلسطينيون الموقف وتوجّهوا إلى مكّة لعقد الاتفاق الشهير الذي شرعوا بترجمته أخيراً.
«اتفاق مكّة» تسوية. ولأنه كذلك فإنه لم يصل إلى حدود التلبية الكاملة للمطالب الأميركية والإسرائيلية التي تحمل اسماً رمزياً هو: مطالب اللجنة الرباعية. من هنا، وجدت واشنطن نفسها أمام ارتباك. فالاتفاق، في حد ذاته، يناقض الشعار الأميركي المركزي المرفوع في المنطقة: حرب الاعتدال والتطرّف. وهو يناقضه لأنه يضع طرفاً من محور الخير المعتدل مع طرف من محور الشرّ المتطرّف في... حكومة واحدة برئاسة «الشرير» إسماعيل هنية وعلى قاعدة سياسية ملتبسة إلى حد ما. لا تستطيع الولايات المتحدة أن تهضم، بسهولة، هذه النتيجة وقد لا تستطيع هضمها على الإطلاق (هذا ما يدعوها إليه ساتلوف). ولكن، في المقابل، لا تستطيع رايس التخلّي تماماً عن محاولة «فتح الأفق السياسي» لأن ذلك شرط من شروط تأمين الفعالية لمحور الاعتدال. يجب أن نضيف إلى ذلك أن الروزنامة ضاغطة وأن المواعيد في المنطقة مأخوذة وأن الرهانات، لدى بعض المتفائلين، كبيرة على الاجتماع الثلاثي بين رايس وكل من محمود عباس وإيهود أولمرت.
النتيجة المتوقّعة لهذا التضارب في المعطيات هي أن رايس ستجد نفسها، مرّة أخرى، مضطرّة إلى قدر من التواضع بحيث يتحوّل «فتح الأفق السياسي» إلى فتح لأحد المعابر، ولوحظ أن دنيس روس انضم إلى ساتلوف في خفض التوقّعات وكذلك فعلت الوزيرة الأميركية نفسها.
إن السياسة التي يقترحها ساتلوف، والتي قد لا تكون رايس بعيدة جداً عنها، هي أنه يجب تدفيع الفلسطينيين ثمن «الوحدة الوطنية» بعد أن جرى تدفيعهم، على امتداد عام، ثمن الانتخابات التشريعية. إلا أن في الأفق ما يوحي بأن هناك من يفكر في تدفيع المملكة العربية السعودية ثمن ارتضائها برعاية اجتماع أدّى إلى «اتفاق مكّة». وقد يكون الثمن المطلوب الدفع نحو علاقات سعودية ـــ إسرائيلية علانيةً، والضغط لكي تؤدّي الرياض دوراً في تأمين مواكبة عربية لـ«الأفق السياسي»، ولو مسدوداً، يكون على شاكلة تطوير جوانب من العلاقات مع إسرائيل.
***

يخطئ من يعتقد أننا، في لبنان، بمنأى عن التأثّر بما يجري في فلسطين. إن قراراً تتخذه واشنطن هناك شديد الارتباط بقرار هنا، ونهجاً تعتمده السعودية هناك موصول بنهج تتخذه هنا. وإذا كان يمكن الرهان على أن ترتضي الولايات المتحدة مشاركة لـ«فتح» في حكومة لـ«حماس» (وهو رهان غير مؤكد طبعاً، وخاسر على الأرجح)، فإن من غير المعقول أن ترتضي مشاركة معارضيها في لبنان في حكومة لمؤيّديها. إن من يريد التفتيش عن سبب استمرار الأزمة اللبنانية عليه أن يفتّش هنا.