البقاع ــ عفيف دياب
قفزت عرسال خلال السنوات الثلاث الماضية إلى واجهة الأحداث اللبنانية. فمنذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي تزنّر صوره جدران منازل البلدة المتواضعة، وأهالي عرسال في تمرّد دائم وانتفاض على واقع سياسيّ أجبرهم على مواجهة تحدّيات عديدة


لم تكن «الرحلة» إلى بلدة عرسال في أقاصي البقاع الشمالي سهلة و«ممتعة». فالبلدة نائية جداً (تبعد عن بيروت 120 كلم، وعن شتورا 80 كلم، وعن مدينة بعلبك 40 كلم)، والطرق المؤدية إليها من شتورا سالكة وغير آمنة لوعورتها وشكلها الهندسي والتنظيمي.
أسهمت عرسال في صناعة كل الثورات اللبنانية وحتى العربية. فالبلدة قدمت أكثر من 450 شهيداً سقطوا على أرض فلسطين وجنوب لبنان والعراق. وعرف عن شبابها انخراطهم الواسع في صفوف جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي كان الحزب الشيوعي اللبناني عمودها الفقري قبل تولي حزب الله أمر المواجهة مع إسرائيل. ويقول مسعود عز الدين إن البلدة قدمت 10 شهداء في إطار المقاومة الوطنية اللبنانية، عدا الشهداء مع المقاومة الفلسطينية الذين سقطوا دفاعاً عن وحدة لبنان وعروبته و«هي لن تخون يوماً عروبتها التي دفعت من أجلها الغاليعرفت عرسال العمل الحزبي باكراً جداً، فكان الحزب الشيوعي اللبناني من أكبر الأحزاب في البلدة قبل أن يبدأ بالتراجع في أواخر القرن الماضي. وتأخذ الجماعة الإسلامية اليوم الموقع التنظيمي الأكبر لها في البلدة بعد أن أفل نجم حزب البعث السوري مع الخروج السوري من لبنان. كما أن معظم الأحزاب الناصرية وجدت تربة خصبة في عرسال، فدخلتها من بابها الواسع إلى أن تراجعت لحساب تيار المستقبل الذي هو اليوم من أكبر التيارات السياسية في عرسال منذ اغتيال الرئيس الحريري.
ويقول محمد حسن حجيري إنه لا هيكلية تنظيمية في عرسال لتيار المستقبل، بل «حالة تعاطف كبيرة مع المستقبل ناجمة عن الأجواء السياسية العامة في لبنان، وهي حالة جاءت بعد أن فشلت الأحزاب الأخرى، وتحديداً حزب الله، في قراءة المشهد العرسالي الذي رآه الحزب مجرد زوبعة لم يكترث لها». ويوضح الحجيري أن العلاقة «العرسالية» مع حزب الله «ليست على ما يرام»، متهماً الحزب بأنه تجاهل طوال الحقبة الماضية عرسال واحتياجاتها الإنمائية، و«نظر إليها على أنها مجموعة أصوات انتخابية، ما أدى إلى تراكم الوجع عندنا إلى أن انفجر بوجه سوريا بعد اغتيال الحريري، ومن ثم بوجه حزب الله أخيراً».
قراءة الحجيري تناقضها قراءات أخرى في البلدة. ويقول السيد محمود كرنبي إن موقع عرسال الجغرافي «يفرض عليها أن تكون على وئام مع كل جيرانها اللبنانيين والسوريين»، موضحاً أن «العلاقة الاقتصادية ــ الاجتماعية مع الجوار اللبناني والسوري يجب أن تبقى في هدوء تام لأن مصالحنا مشتركة. فالزمن يتغير ولكن الجغرافية تحكمنا ولا نستطيع أن ننقل عرسال إلى منطقة أخرى، ولا نستطيع أن نكون معزولين عن جوارنا وجيراننا».
عرسال المحاصرة شرقاً من سوريا، وغرباً وجنوباً وشمالاً من عشرات القرى المنتمية إلى أهواء سياسية ومذهبية أخرى (تحدها قرى اللبوة ويونين ومقراق ونحلة والعين والفاكهة ورأس بعلبك والقاع) لا يمكن أن تكون وحدها. ويحمّل قيادي في حزب الله تيار المستقبل مسؤولية «أخذ عرسال إلى موقع ليس لها أو هي منه»، مبدياً تفهمه لواقع البلدة الديموغرافي الذي «يعني الكثير لحزب الله. فالبلدة كانت دوماً نصيراً للمقاومة ولن تكون في يوم آخر معادية لها
ولكن ألا يتحمّل حزب الله مسؤولية «الابتعاد» عن عرسال؟ سؤال يجيب عنه القيادي المحلي بالقول: «نحن لم نبتعد عن عرسال، وهي أيضاً لم تبتعد ولن تضيع البوصلة. ربما أساء بعض الأفراد من هناك أو من هنالك إلى العلاقة التي ستبقى وطيدة وقوية، والحوادث والإشكالات التي حصلت أخيراً لا يمكن أن تلزمنا بقطع العلاقة مع عرسال».
هذه الحوادث يرفض «العراسلة» اتهامهم بها. ويقول أحمد كرنبي إن «ما جرى لسنا مسؤولين عنه، وحزب الله والجميع يعرف ذلك، وبالتالي الموضوع لا يحتمل أن يتجه نحو تحريض مذهبي. فعرسال لم تكن يوماً مذهبية، ولا تتعاطى مع جيرانها على أساس أو خلفيات مذهبية. فلا يمكن أحداً أن يميّز بين ابن عرسال أو اللبوة ونحلة والعين. جميعنا هنا تحت سماء واحدة وشمس واحدة. وخبزنا لا يختلف عن خبزهم، ومعيشتنا وفقرنا وحرماننا لا يختلف عن جيراننا إطلاقاً، ونحن نعاني معهم حرماناً مزمناً لا يستطيع حزب الله أو تيار المستقبل رفعه أو تنمية المنطقة من دون الدولة. الدولة هي سقفنا، وعلينا جميعنا أن نُسهم في بنائها ولا يمكن أحداً من الطرفين أن يكون دولة ضمن الدولة».
يرفض أبناء عرسال اتهامهم بأنهم يعيشون في عزلة تامة. فعلى الرغم من توقف حركة «السير» نحو الأراضي السورية بسبب الموقف «العدائي» المتبادل بين الطرفين، وتراجع حركة التهريب إلى حدودها الدنيا، فإنّ أبواب البلدة مشرّعة نحو الداخل اللبناني، وتحديداً نحو الجوار، حيث الحاضر والمستقبل، إذ «لا مصلحة لنا في الخصام مع أحد»، كما يقول مسعود عز الدين الذي يفتخر ببلدته وعلاقتها «الإنسانية» مع الجوار، و«نحن لا يمكن أن نكون وحدنا هنا. الحياة قاسية وموجعة ولا بد من صفاء العلاقة مع الجيران الذين لا يمكنهم الاستغناء عن عرسال ولا استغناء عرسال عنهم، فالدولة بعيدة عنا كثيراً ووصولها إلى هنا مع خدماتها مستبعد جداً في الوقت الراهن!».




89 قتيلاً برصاص سوريّ

خلال الحقبة السورية، لم يكن «العراسلة» يملكون كامل حريتهم السياسية والاقتصادية. فكانت انتفاضتهم ضد الوجود السوري بعد اغتيال الحريري مباشرة. فقد طفح الكيل من ممارسات كادت أن «تمس» عروبتهم التي قدموا من أجلها مئات الشهداء من فلسطين إلى العراق، وعلى طول جبهات المواجهة مع إسرائيل في لبنان، وفي الصراع اللبناني ــ اللبناني.
لم تحسن «الوصاية» السورية على لبنان قراءة المشهد «العرسالي» طوال ثلاثة عقود من الزمن. كما لم يحسن «العراسلة» أيضاً قراءة واقعهم الجغرافي. فكانوا دوماً على «خط» تماس مع «الوصاية» خلال وجودها وبعد «رحيلها». فسوريا هي العمق الاقتصادي، أو البوابة الاقتصادية التي يتنفس منها أبناء عرسال (عدد سكانها اليوم نحو 30 ألف نسمة) الذين وجدوا في سوريا مصدر عيش لهم، واشتهروا بـ«التهريب» على طول «خط» حدودهم مع سوريا التي «تطوّقهم» كفكّي كمّاشة.
التمرّد العرسالي ضارب في الأرض، حسب قول أحمد فليطي. فالبلدة لم تنم يوماً على الضيم منذ العهد العثماني، مروراً بالانتداب الفرنسي الذي أرسى حدود عرسال مع سوريا في عشرينيات القرن الماضي، وصولاً الى العلاقة مع سوريا. ويقول أبو علي الحجيري (76 عاماً) إن العلاقة العرسالية ــ السورية لم تكن يوماً على ما يرام: «في عنّا 89 قتيلاً برصاص سوري».

الشهيد اللبناني الأوّل في مزارع شبعا

عرفت عرسال «التمرّد» باكراً. فطبيعة الأرض والمناخ صنعت من سكانها «ثوّاراً» ينتفضون بين الحين والآخر على واقع فرض عليهم وحرمهم أبسط مقوّمات الحياة.
و«العرساليون» يفاخرون بأنّ بلدتهم من أكبر البلدات اللبنانية (مساحتها 450 كلم، وتشكل خمسة في المئة من مساحة لبنان، وترتفع عن سطح البحر 1560م). كما تفتخر عرسال بأنّها قدمت الشهيد اللبناني الأوّل في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا سنة 1989.
ويقول مسعود عز الدين إن الشهيد محمود الحجيري اقتحم موقع الاحتلال الإسرائيلي في تلة السماقة مع رفيقه الشهيد ايلي الحداد من أقاصي عكار، ليؤكدا أن مزارع شبعا لبنانية قبل أن تتحول إلى قضية وطنية اليوم.
وبالتالي ــ يضيف مسعود ــ لا يمكن أحداً أن يزوّر أو يشوه تاريخ عرسال ودورها في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.