strong> جوان فرشخ بجالي
تفخر اليوم الفنادق الكبرى بتقديم خدمة الحمامات البخارية والتدليك بالزيوت لزبائنها، وتروّج لها على انها ترف وأصناف كمالية تريح الجسم والعقل، وهذا ما لا شك فيه، لكنّ دراسة التاريخ والآثار تظهر أن الحمامات لم تكن من الكماليات، بل خدمة يؤمّنها المسؤولون والأغنياء للشعب، وخصوصاً الفقراء، لتريحهم وتخفّف عنهم ضغط الحياة. قصّة الحمّامات عبر العصور كانت موضوع المحاضرة التي نظّمها أصدقاء متحف الجامعة الأميركية في بيروت، والتي ألقاها الباحثان الفرنسيان البروفسورة ماري فرنسواز بوساك والدكتور جيرار شاربنتيار.
شرحت بوساك كيف أن الحمامات «اتت الى الشرق الاوسط القديم بعد وصول جيوش اسكندر المقدوني وقيام الامبرطوريات الهيلينية، ابتداءً من القرن الثالث قبل الميلاد. فالإغريق هم من أنشأ الحمّامات الجماعية، وكان أوّلها في مدينة أوليمبيا حيث كانت تجرى الألعاب الأولمبية». والحمامات الاغريقية لا تشبه الرومانية او الاسلامية منها. فهي مبنية على شكل دائري، يدخلها المستحمون ويجلس كل واحد منهم في حوض منفرد يفصله عن الآخر حائط صغير. والرفاهية الوحيدة التي كان يعرفها مستخدمو تلك الحمامات تكمن بالمختصين بتدليك الاجسام وتنظيفها. وقد لاقت فكرة الحمّامات الجماعية هذه رواجاً كبيراً في كل مدن الشرق الاوسط، وخصوصاً في مصر القديمة. فكثيرة هي النصوص المكتوبة على ورق البردى التي تصف يوميات هذه الحمامات التي عثر علماء الآثار على بعضها على ضفاف النيل.
اما بالنسبة للحمامات المعروفة في لبنان (في موقع صور البحري وفي وسط بيروت)، فهي تعود الى الفترة الرومانية، وهي من الاكبر في المنطقة، وتظهر الاهمية التي كانت تكتسيها هذه المباني ايام الامبرطورية الرومانية. ويقول الدكتور شاربنتيار، إن «الحمامات لم تعد مجرد اماكن للاغتسال، بل اصبحت مكاناً ينضح بالحياة. فكان يُلحق بها ملعب رياضي ومكتبات عامة وقاعات للتلاقي. وتكمن أهمية الحمامات الرومانية في عبقرية البناء وتدفئته التي تختلف عما سبقها وسيلحق بها. فما يميز الحمام الروماني هو أن جدران المبنى وأرضياته كانت تبعث الدفء».
وحده الحمام الروماني اعتمد على تسخين الهواء والأرض على حدّ سواء، اما الحمامات التي بنيت في العصور الاسلامية فاعتمدت على البخار لتسخين الهواء فقط. وكانت هذه الحمامات قد اتّبعت الشكل الهندسي الروماني في تقسيم الغرف. فأول غرفة تكون حرارتها باردة، ثم يدخل المستحم الى الغرفة الثانية التي ترتفع فيها الحرارة قليلاً من دون أن تصبح حارة، اما الغرف الباقية فهي حارة جداً وفي داخلها احواض كبيرة يمكن اكثر من عشرة اشخاص الجلوس في داخلها. وكانت الحمامات الضخمة في الفترة الرومانية تضمّ غرفتين حارتين لتلبية الحاجة. وأكد الدكتور شاربنتيار ان الحمامات الرومانية في بيروت ــ الكائنة بين السرايا الكبيرة وشارع المصارف، هي من هذا النوع، إذ «كان في كلّ منها غرفتان حارتان، واحدة للتدليك بالزيوت والاخرى للاستحمام. ووضعت في طرف تلك القاعات بركة كبيرة من الحجر تُملأ بالمياه الباردة لتسمح للمستحمّ بتخفيف الحرارة عن جسده عبر ترطيبه». وأكد شاربنتيار أنّ باقي قاعات هذا الحمام الروماني لا تزال مدفونة تحت الطريق والسرايا الكبيرة.
اما بالنسبة للحمامات التي بنيت في العصور العباسية والعثمانية، والتي تكثر في طرابلس، فأكد شاربنتيار أن البناء في اكثرها لا يزال بحالة جيدة، إذ إن معظمها توقف عن العمل منذ اقل من خمسين سنة.
وما يستغربه الباحثون هو سبب «موت» هذه العادة في الشرق الاوسط. ففي لبنان، اصبحت شبه معدومة، وفي سوريا والعراق ومصر وفلسطين، تنحصر في المدن الكبيرة التي يزورها السياح. واللافت أن مجتمعات دول المغرب العربي لا تزال تستخدم الحمامات الجماعية بشكل عادي، لا بل تستعملها في اعلاناتها السياحية بمثابة تراث حي، وهي تجذب السياح وتدرّ الملايين.