من سيصرخ أولاً؟
هدى مطر ــ إعلامية

اعتصام، فإضراب فردّ على الإضراب، فخروق جوية، فرمي للبالونات السامة المخترقة لعمق الضاحية الجنوبية في الشياح، فتوغّل في الأراضي، فاشتباك وصدّ من الجيش اللبناني. وفتنة سنية شيعية تشم رائحتها في كل مفترق وحي وبناء. كل ذلك ولا يزال فريق الأكثرية يحمل على عاتقه همّ تمرير المحكمة ذات الطابع الدولي، سواء بتهريبها من وجه الأطر القانونية والدستورية التي يجب أن تخضع لها، أو بإقرارها تحت الفصل السابع بإرادة أميركية فرنسية. فالمحكمة هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تحقق ما لم تستطع السياسة تحقيقه ولا حتى الحرب. المحكمة بمسوّدتها الحالية هي التي يمكن أن تأخذ الأمور إلى حيث يعلم الجميع، إلى فتح ملفات الماضي مستندة إلى بعض نصوصها ذات الأثر الرجعي الذي ينسحب على الماضي البعيد البعيد، من دون سقف زمني محدد، ما يعني تصفية الحسابات الأميركية الإسرائيلية مع الداخل والخارج على السواء. الداخل المتمثل بقوى المعارضة والخط الوطني العروبي، الذي لا يزال يشهر سلاحه على عدوه الأوحد «إسرائيل». أما الخارج فهو بلا منازع، سوريا حافظ الأسد، وكأني بالرئيس بشار الأسد يراد له أن يدفع ثمن إحباط والده لمشروع الشرق الأوسط، أو عرقلته على الأقل في فترة الثمانينيات والتسعينيات.
انطلاقاً مما تقدم بات لازماً علينا الاعتراف بأن أي تسوية لهي لعب في الوقت الضائع، والمهلة لا تتعدى ستة أشهر أو ربما كما يرى بعض المحللين الاستراتيجيين أنها أربعة أشهر، لكنها أشهر حبلى بالمجازر التي ستجتاح العراق جنوباً وغرباً، والعنوان حفظ الأمن وإعادة الاستقرار، أما الحقيقة فهي اجتثاث المقاومة من جذورها، والهدف جنوباً التيار الصدري وغرباً كل القوى المنضوية تحت لواء المقاومة.
إن أي نصر ستحققه أميركا في هذه البقعة يعني نصراً لاستراتيجية الأكثرية النيابية في لبنان، حيث ستفقد القوة الداعمة للمعارضة الورقة الأكثر تأثيراً في عملية التسوية أي المقاومة في العراق. وهذه الفرضية فرضية النصر حسب ما نرى من أداء المقاومة العراقية لن يكون سهلاً، وخاصة إذا ما علمنا أن ما يقارب 164 فرقة موت إيرانية موجودة في الأراضي العراقية لم تحرك ساكناً منذ دخول القوات الأميركية إلى العراق، ويبدو أن مهمتها قد بدأت بالنظر إلى ارتفاع عدد القتلى ونوعية العمليات التي تنفذ وتقنيتها، طبعاً بالتزامن مع عمليات المقاومة في الأنبار والفلوجة والرمادي وغيرها من المناطق العراقية. هذه هي بعض الحقيقة، على رغم المحاولات التي لا تبرح تزجّ اسم إيران في مهرجان الذبح اليومي الذي يجتاح بغداد غافلةً عن سابق تصور أن عدد الجنود المرتزقة قد بلغ خمسين ألفاً، لا انتماء لهم ولا دين ولا عقيدة سوى المال.
إن أي حل داخلي لبناني لبناني، هو حل مستبعد، فلكل طرف حساباته ولكل طرف محوره، شئنا ذلك أو أبينا، ولبنان شاء له القدر أن يكون البقعة الوحيدة في المنطقة العربية التي يمكن من خلالها تمرير المشاريع الاستعمارية الجديدة القديمة، نتيجة لتركيبته الطائفية والسياسية الهشة. أمام المعارضة وقت عصيب عليها اجتيازه بكثير من الصبر والحكمة والتأنّي، فأي خطوة تصعيدية منها ستؤدي بالضرورة إلى اشتعال نار الفتنة التي لم يبق سواها سلاحاً يمكن أن يسقط مشروع المعارضة، وضمناً يسقط سلاح المقاومة في «زواريب بيروت» وأزقّتها. المقاومة التي تعيش أوضاعاً دقيقة بالنظر إلى تزايد الخروق الإسرائيلية وازدياد حجم الأراضي التي تُقتطع وتُضم إلى الكيان الصهيوني تحت راية قوات اليونيفيل التي لا تحرّك ساكناً والحكومة التي لا «يرفّ لها جفن» لأي قضية سيادية أو وطنية. والجيش الذي يرد ويتصدى للانتهاكات لكن بمقدرات وعتاد لا يفي بالغرض. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذه المقاومة ومن ينتمي إليها باتا مطاردين وهدفاً للاستخبارات الأميركية في أي بقعة من العالم، وهذا ما أعلنه صراحة الرئيس الأميركي جورج بوش في خطابه السنوي الذي أصدر فيه الأوامر لجهاز «سي آي إي» بتنفيذ عملياته ضد حزب الله المصنّف إرهابياً، هذه المقاومة بمن يمثّلها ملقى على عاتقها بالدرجة الأولى كبح جماح الفتنة المتربّصة بالبلد في كل زاوية. وهذا ما يفسّر سير المعارضة البطيء نوعاً ما في مشروعها التغييري. فهي من جهة لا تريد أن تنزلق جماهيرها نحو حرب أهلية يخسر فيها الجميع، والمنتصر الوحيد أصحاب المشاريع الفيدرالية. ومن جهة أخرى هي بانتظار ما ستؤول إليه استراتيجية بوش الجديدة، كما قلنا سابقاً، في العراق. من هنا فإن الأسابيع المقبلة رهن بمن يصرخ أولاً في لعبة عضّ الأصابع التي يمارسها كل من الفريقين المتنازعين.