strong>عفيف دياب
يبدو أن التقصير هو السمة العامة لعمل الدولة في لبنان، فبالأمس نشرت «الأخبار» تقريراً عن شخض منسي في السجن منذ سنوات، واليوم تقرير عن إهمال الدولة لمناطق الأطراف وتجاهلها بالرغم من تذكير المواطنين الدائم لها...
لماذا لا يتحرّك وزير الداخلية؟

يمكن أن يدخل مأمور نفوس حاصبيا السيد عز الدين زين الدين موسوعة غينس للأرقام القياسية. فهو موظف في الإدارة اللبنانية منذ أكثر من 3 عقود، يعمل أكثر من 8 ساعات يومياً لإنجاز معاملات رسمية لنحو 75 ألف مواطن يتوزعون على 24 قرية في قضاء حاصبيا في الجنوب اللبناني.
ففي غرفة صغيرة جداً في مبنى مستأجر في مدينة حاصبيا منذ 1964، يتنقل زين الدين بين «رفوف» وخزائن أكلها الصدأ و«يفلفش» في مجلدات رسمية بدأ مرور الزمن يترك بصماته عليها، في وقت تتكدس فيه الأوراق الرسمية ومعاملات المواطنين أمامه على طاولة ربما تجاوز عمرها عقدين من الزمن، وبالتالي يمكن وصف أثاث المكتب بأنه يعود إلى العهد العثماني، على حد وصف أحد المخاتير الذي كان ينتظر إنجاز معاملات لأبناء قريته.
لا يمكن أحداً أن يفتح حواراً مع مأمور نفوس حاصبيا، فلكل دقيقة ثمنها الكبير و«ما تلهيني، لأنو الناس ناطرا وبدا معاملاتها». فهو «ورث» دائرة النفوس عن سلفه أحمد معتوق الذي غادر الإدارة اللبنانية في عام 1983 بعد أن «تعب» من المطالبة برفع عدد الموظفين في الدائرة، وهي حال مأمور النفوس زين الدين الذي ينتظر منذ «زمن» طويل استكمال «ملاك» دائرة النفوس الذي يجب أن يكون 8 موظفين لا موظفاً واحداً.
يمضي زين الدين ساعات عمله متنقلاً بين دفاتر قيود أهالي حاصبيا والعرقوب. هذا يريد إخراج قيد لمعاملة رسمية، وذاك يصرّ على تسجيل وثيقه زواجه اليوم قبل الغد، وثالث ينتظر حتى يفرغ مأمور النفوس من إنجاز عشرات «إخراجات» القيد حتى يتسنى له الاستحصال على نسخة من وثيقة وفاة والده، ورابع يريد تسجيل ولادة طفله على قيده، ومئات من المواطنين يقصدون دائرة النفوس يومياً في حاصبيا والكبير والصغير يعرف «عز الدين زين الدين» في حاصبيا والعرقوب، ويمكن إطلاق تسمية «رئيس جمهورية» حاصبيا والعرقوب عليه.
ينظّم مأمور نفوس حاصبيا عمله بشكل دقيق و«أحسن من الكومبيوتر»، يعرف قيد فلان في أي دفتر من السجلات وفي أي صفحة.. و«بلغ سلامي للوالد» بعد أن يكون قد أنجز معاملة لمواطن من بلدة شبعا.. و«كيفو عمك، بعدو بكفرشوبا؟» و«شو ايمتى تجوزت يا عمي؟» وهكذا من أحاديث وحوارات مع مواطنين ينجز لهم معاملاتهم في غرفته الصغيرة التي لا تكاد تتسع لخزائن حفظ الملفات والأرشيف، ومدفأة تعمل على المازوت وكمية من «علب» الكرتون لحفظ أوارق رسمية.
ويقول مطلعون في حاصبيا إن كل محاولات «تأمين» موظف يساعد مأمور النفوس ذهبت «أدراج الرياح» و«أكثر من تقرير رسمي رفع إلى وزارة الداخلية التي لم تكلف نفسها عناء السؤال كيف تجري الأمور». يقول السيد أبو محمد غادر الذي أصبح يعرف الشاردة والواردة في دائرة النفوس «من كثر ما بزورها»، مشيراً إلى أن زين الدين «ينجز يومياً أكثر من 300 معاملة رسمية»!
ويقول مواطنون كانوا ينتظرون إنجاز معاملاتهم إن «مركزية» القرار في دائرة نفوس حاصبيا، التي يمسكها جيداً الموظف الوحيد زين الدين، تعطي صورة واضحة عن الإهمال المطبق في الإدارة اللبنانية، وتحديداً وزارة الداخلية، أي وزارة الوصاية على دائرة النفوس التي لم تجد بعد موظفاً ثانياً يساهم في تلبية احتياجات المواطنين، في زمن «تعج» فيه الوزارات بـ«فائض» توظيفي.
نجح مأمور نفوس حاصبيا في وضع قواعد لعمله الإداري. فهو يقسم ساعات عمله وفق برنامج محدد ومنظم يراه مناسباً لعمله. ينجز معاملات المواطنين القاطنين خارج المنطقة أولاً، فلا يجوز أن ينتظر القادم من بيروت، للاستحصال على إخراج قيد، عدة أيام و«أنجزه له بسرعة حتى لا يتعذب في الذهاب والاياب، أما معاملات القاطنين داخل القضاء فإن مخاتير القرى يقدمونها صباحاً وأسلمها لهم إما بعد الظهر أو في اليوم التالي، فضلاً عن معاملات أخرى واردة عبر البريد الرسمي من سفارات لبنان في الخارج أنجزها وأتم اجراءاتها في القيود فور ورودها».
ولكن هذا «التنظيم» يلقى اعتراضات من المواطنين في حاصبيا والعرقوب. فالموظف الوحيد، بغض النظر عن تنظيم عمله أو حسن إدارته لمهامه أو إهماله، يدخل المواطن في أتون المراجعات المتكررة لإنجاز معاملة واحدة. ويقول مخاتير في قرى قضاء حاصبيا إنهم أصبحوا أسرى دائرة النفوس التي تحتاج الى اكثر من موظف واحد و«لا يجوز أن يبقى مأمور النفوس لوحده ويحصر السلطة المطلقة بيده لإنجاز المعاملات، وعلى وزارة الداخلية أن تجد حلاً لهذه القضية التي تعود الى سنوات طويلة».