strong>فداء عيتاني
الثــورة الفلسطينيّــة والحــرب: الهزيمــة ومــا تلاهــا من حريريّــة

تعرّض السياسيّون السنّة التقليديّون لضغط هائل خلال المرحلة التي تلت مباشرة حرب عام 1967، الهزيمة الأكبر التي عاشتها الدول العربية والتي أغرقت جمال عبد الناصر وجماهيره. إلا أنّ المهرب كان جاهزاً، ولم تُترك الساحة للفراغ. فبدأت تنظيمات الثورة الفلسطينية ترث كوادر حركة القوميين العرب، وراحت الجماهير تهرب من واقع الهزيمة الى حلم المقاومة الفلسطينية والفدائيين. اتّكأت النخب السياسية على هذه المقاومة وعلى حرب الاستنزاف التي شنّها عبد الناصر على إسرائيل لترسم أفقاً مشرقاً، وانطلقت الطبقة السياسية التقليدية في مساومات هنا وهناك، فيما انفتحت مناطق الجنوب شبه الخالية سياسياً أمام المنظمات الفلسطينية.
في ظل ضغط «النكسة»، تعرّض الشارع السنّي إلى هزيمة، كما يروي أحد الأقطاب البيارتة، حين انعقد الحلف الثلاثي وهزم لوائح «السنّية التقليدية» عام 1968. ثمّ جاءت انتخابات عام 1972 التي تأسّست على حرب الاستنزاف واتفاقية القاهرة (1971) والتحضير لحرب عام 1973 على إسرائيل، وعلى ميليشيات الفدائيين في بيروت وصعود اليسار وانتشار القوى الناصرية بحركاتها التنظيمية. وكان قد أصبح للسنّة قاعدة صلبة اقتصادياً واجتماعياً، فأتت الانتخابات شبيهة بقاعدتهم الصلبة هذه، وساهم «التقليديّون السنّة» حينها في إفساح المجال أمام الشباب والناصرية. غير أنّ هذه الانتخابات أسّست لحرب رفضت فيها «الطغمة المالية» و«المارونية السياسية» تقديم أيّة تنازلات داخلية.
«ضرب السنّة بسيف غيرهم وطالبوا بالغنم»، يقول قطب بيروتي وهو يصف الموقف السنّي خلال بدايات الحرب الأهلية. ويصف نائب عن تيار المستقبل موقف السنّة بالانحياز الى المقاومة الفلسطينية، والابتعاد عن الزعامات التقليدية التي خبا دورها رويداً رويداً، وتعرّضت للضربات المتتالية من أكثر من جهة.
إلا أنه، خلال فترة النزاع، أدّت دار الفتوى دوراً رئيسياً، إذ كانت هي المرجعية الفعليّة، وكان المفتي حسن خالد يردّد في مجلسه أمام رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات خلال بدايات الحرب الأهلية في لبنان أنّ «فتح هي ميليشيات السنّة». ولا تنبع هذه المقولة من حاجة السنّة الى ميليشيا، بل من حقيقة كونهم لم يجدوا أنفسهم بحاجة فعلية الى التدخل مباشرة في النزاع بصفته حرباً أهلية، وخصوصاً في ظل علاقتهم الملتبسة بالنظام اللبناني، وعدم تشكّلهم طائفةً على غرار الطوائف الأخرى. فلطالما حافظ السنّة على مسافة بينهم وبين الصراع الداخلي وانتسبوا الى الصراع العربي ــ الإسلامي ضد اسرائيل، وأدخل جمال عبد الناصر في خطابهم العداء للغرب، علماً أنه بقي عداءً لفظياً.
وللدقّة، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ كلّ ما سبق لا يعني عدم تشكّل طبقة من الإنتلجنسيا ومن الموظّفين الرسميّين الذين يدينون للدولة اللبنانية بالولاء، ويرفضون الانتماء إلى بعد عربي أو بعد محلي طائفي.

الهزيمة والقرار

«لم يشعر السنّة بالهزيمة إلا بعد الخروج الفلسطيني من لبنان (أيلول عام 1982)»، كما يقول أحد الأقطاب البيارتة. و«لم يشعروا بعمقها إلا بعد انتفاضة عام 1984 وتسلّم الميليشيات، وخصوصاً الشيعية منها، زمام الأمور في بيروت»، بحسب الوريث لزعامة بيروتية تقليدية الذي يقول ان السنّة شعروا أيضاً بالهزيمة فعلياً في منتصف تسعينيات القرن الماضي، يوم أحسّوا بأنّ «شيئاً ما قد تغيّر».
فالطائفة الكبيرة التي تحلم بالوحدة العربية وبدولة الخلافة الإسلامية، وصاحبة شبكة علاقات داخلية مالياً وسياسياً مع كل أركان النظام اللبناني، والتي أُشركت في ميثاق عام 1943 من دون رغبة أو اندفاعة كبيرة منها، لم تهزها هزيمة المقاومة الفلسطينية كما هزتها هزيمة عام 1967، ولم تهزّها مجزرة صبرا وشاتيلا كما هزّها سقوط الإمبراطورية العثمانية. ولا يزال بعض سياسييها البيارتة يروون بفخر قصة مقاومتهم الدخول الاسرائيلي الى بيروت عقب مقتل بشير الجميل، بالتوازي مع روايتهم مقاومة المدّ الشيعي الدرزي. فقد اهتزّت هذه الطائفة حين سيطرت ميليشيات الحزب التقدّمي الاشتراكي (الدرزية) وحركة أمل (الشيعية) على بيروت.
«أُوقفت سيارة المفتي حسن خالد في منطقة ساقية الجنزير عام 1984»، يقول النائب عن تيار المستقبل. «توجّهنا جميعاً الى دار الفتوى في منطقة عائشة بكار. امتلأت الدار بعشرات السياسيين والنسوة وغيرهم، والكل يصرخ خوفاً وهلعاً واستنكاراً لما وصلت إليه حال أبناء الطائفة، الى ان صرخ صحافي من «السفير» بالحضور طالباً الصمت. ثمّ ضرب الطاولة بيده وهو يصرخ: «مهما فعلوا فالقرار سيبقى هنا»، وهو يعني داخل جدران دار الفتوى، كما لدى الطائفة.
بيد ان الطائفة لم تتخذ شكلها التقليدي. لم تكن أكثر مما سبق لها أن شكلته. لا بل تشرذمت بعد تعرضها لضربات تمثلت في القضاء على «المرابطون» (1984-1986)، وعلى «حركة 6 شباط» (1986)، وعودة الجيش السوري الى بيروت (1987)، وصار الفراغ هو السائد، كما يقول النائب عن تيار المستقبل، الذي يضيف أنّ مقتل رشيد كرامي ومن بعده المفتي حسن خالد أشاع الفراغ الذي لم يتمكّن أحد من المرجعيات السنّية ملأه. فهذه المرجعيات لم تكن ملتصقة بالشارع، ولا تعرف قواعد لعبة الزعامة اللبنانية المبنية على الخدمات وعلى التقديمات والمحسوبية، وهذا ما ينطبق مثلاً على تفكير الرئيس سليم الحص الذي يرفض المحسوبيات، ولا يعتبر نفسه زعيماً طائفياً، من قريب ولا من بعيد.
بدأ رفيق الحريري، في هذه الأثناء، محاولاته ملء الفراغ خدماتياً واجتماعياً. فأنشأ أوّلاً مجمع كفرفالوس الذي دمّره الاجتياح الإسرائيلي (1982). وأعقبها بمدّ المساعدات التعليمية عبر المنح والقروض، التي شملت «جيشاً» صغيراً من ثلاثين ألف شخص.
وفي هذه المرحلة، بدأ ذوبان الموروث الديني يفتح الآفاق للسنّة للدخول في التجارات والصناعات غير الإسلامية، من المصارف وغيرها. وبدا وكأنّ التطوّر المدني والحرب الأهلية وما رافقها قد أضعف التشدد الاسلامي، وخصوصاً في بيروت، فيما بقيت المناطق تحافظ على طابعها الاسلامي إلى اليوم، بحسب ما يرى القطب البيروتي. وبدأت بالمقابل حالة التراجع في مؤسسات الطائفة التعليمية والاجتماعية بفعل ظروف الحرب. بعدها، اغتيل المفتي حسن خالد، وفي نهايات الحرب زاد التراجع تراجعاً، وخصوصاً مع بداية الحقبة الحريرية في الحكم.

الحريرية والزعامة

يختصر أحد نواب تيار المستقبل كل الكلام بالقول: «ذهبت الى لائحة الحريري لأنّه شكل الزعامة». وكان الحريري قد سأل نائباً آخر إن كان (السنّة) يحبّون المعارضة، مع عزم الحريري التحوّل لقوّة معارضة (عام 1998)، فأجابه النائب بالقول: «السنّة يحبّون الأقوياء يا دولة الرئيس».
كثيرة هي الدلائل التي تشير الى استرشاد رفيق الحريري بهذه البديهيات في السياسة اللبنانية. إلا أنّ الدلائل على حفاظه على نمط السنّة الخارجين على نظام المحاصصة الطائفية في البلد تكاد تكون معدومة، إذ هو من كرّس جسم الطائفة كحالة صلبة في مواجهاته مع رئيس الجمهورية إميل لحود خلال المرحلة الممتدة من عام 1998 الى عام 2005، بحسب تقاطع المرجع البيروتي ووريث الزعامة. ومما سمح لرفيق الحريري بحرية الحركة والمناورة هو تراجع كل الطروحات العروبية، وانكفاء كل المشاريع السياسية في المنطقة العربية.
قبل وصول الرئيس إميل لحود الى قصر بعبدا، لم تلقِ الحريريّة بالاً إلى المناطق الإسلامية. انحصر الاهتمام الفعليّ للحريرية بالتحالفات الفوقية مع كل الطوائف، والعناية بمشاريعها الخاصة وبمحيطها المتعدد طائفياً تبعاً لتعدد نواب الكتل النيابية الحريرية وصفّ المستشارين لرفيق الحريري.
أشدّ معارضي الحريري الأب يتّهمونه بالقيام بما قام به للحصول على الزعامة الشخصية، ولتمرير مشاريعه الخاصة. ويشير المحايدون إلى أنّه يمكن المؤيّدين لرفيق الحريري الردّ على الاتهامات، لكنّها تبقى أسئلة مدوية. أمّا المؤيّدون للحريريّة فيقولون إنّه سعى في البداية إلى تأليف حلقة واسعة من الحلفاء وتيار غير طائفي، إلا أنّ تركيبة البلاد كانت تدفعه الى الاحتماء بالجمهور الطائفي.
لعلّ أوّل ما اشتكت منه المؤسسات التابعة للطائفة السنية بعد نهايات الحرب الأهلية هو حصر المساعدات السعودية ببوابة رفيق الحريري ومؤسساته. ويشكو العديد من الأقطاب من حالة حصار فعلية تعرّضت لها المؤسسات. فمستشفى البربير، حين وقعت في مشكلة الوراثة والإدارة بعد وفاة صاحبها، لم تجد من ينقذها. ويروي أحد أعضاء اللجنة التي كُلّفت الإشراف على المستشفى أنه حين فاتح الوزير (آنذاك) فؤاد السنيورة بحاجة المستشفى الى مليوني دولار للخروج نهائياً من أزمتها، أتاه الجواب «لا تطرقوا هذا الباب»، قاطعاً الطريق أمام إعادة إنعاش المؤسسة الحيوية. كذلك كان وضع جمعية المقاصد التي شهدت تراجعاً حاداً في خدماتها وفي مستواها التعليمي، وصولاً الى حد استقالة رئيسها تمام سلام عقب هزيمته في الانتخابات النيابية عام 2000. حتى دار الفتوى صارت تتلقى المساعدات السعودية عبر بوابة رفيق الحريري الذي، للمناسبة، يقرّ أعداؤه وأصدقاؤه بأنّه لم يلمس أهمية الزعامة السنية، بل كان يسعى للزعامة الوطنية الأكبر مدى. ويردّ معارضوه ذلك إلى عدم فهم الواقع اللبناني والى حالة من «الأنا الكبيرة» التي لم يتمكّن من ترجمتها في الحقل السياسي. أمّا المحايدون فيقرأون تلك المرحلة بصورة مغايرة.





بداية عصر جديد


ويتابع وريث الزعامة الذي يحتك دائماً بأبناء الطائفة، وخصوصاً الفقراء منهم، أنّ «الإجابة التي قدّمها رفيق الحريري عن الشعور العام لدى السنّة بفقدانهم حجمهم ودورهم في لبنان، كانت في إعلان مشروعه هو. ويتألّف مشروعه من شقّين: الأوّل هو إعادة بناء الوسط التجاري، وهو مشروع ضروري ومفروض بعد حالة الخراب في وسط بيروت. أمّا الجانب الآخر من مشروعه، فسياسيّ يتلخّص بزعامته هو، ولم يكن للطائفة السنيّة نصيب كبير فيه».
«الأنا والمال»، يقول معارض بيروتي لسياسة رفيق الحريري في وصفه للرجل. كلّ ما بناه، برأيه، كان يهدف إلى الزعامة المباشرة والأرباح التجارية. أمّا وريث الزعامة البيروتية فيقول إنّ المأخذ الرئيسي على رفيق الحريري هو «ربط كل شبكة الخدمات والمصالح بشخصه، وهو ما هدّد كيان الطائفة ككلّ». إلا أنّ المؤيّدين للحريريّة يرونها بصيغة أخرى: زعامة وطنية ومساعدات سخيّة أغدقت على المؤسسات الخيرية، وعطاءات كريمة للمواطنين المحتاجين بغضّ النظر عن انتماءاتهم.
دخل رفيق الحريري في مواجهة شرسة سياسياً واقتصادياً. تعرّض هو والفريق العامل لديه لاتهامات وملاحقات. وخاض انتخابات جنّد لها مئات الملايين من الدولارات، بحسب أخصامه والمحايدين. هاجم كل خصومه السياسيين. كسر شوكة كل من وقف في وجهه. طالب الحلفاء بإلغاء الفارق بين الآخرين: كل من ليس من لوائحه هو خصم يجب إسقاطه، وكل من ينتسب إلى اللائحة يجب أن يفوز، بغضّ النظر عن مشربه.
وحين زار أحد ضباط الاستخبارات السورية رفيق الحريري طالباً منه إفساح المجال أمام شخصيات أخرى عبر ترك شواغر في لائحته الانتخابية لعام 2000، خاطبه قائلاً: «آنت اللحظة التي سأسحقهم فيها، فلا تطلب لهم الرحمة». طالب الحريري جمهوره المجيّش طائفياً بإسقاط اللائحة الانتخابية كما هي عند الساعة السابعة صباحاً، واستغلّ حتّى اللحظة الأخيرة من الانتخابات الدعاية التي أُطلقت ضده عبر شاشات التلفزة. واستفاد من جو التحريض الطائفي الذي حاول البعض استثماره لضربه، فأصبح للمرّة الأولى زعيماً لطائفة تشبّهت ببقية الطوائف، ودخل في لعبة المناطق السنية الفقيرة التي تطالب بالثأر من الآخرين، كل الآخرين الذين حظوا بغنم السلطة في السنوات التاليات للحرب الأهلية.
نجح الحريري في الانتخابات النيابية، برفقة كلّ من والاه، محدثاً تحوّلاً في الخريطة السياسية. وللمرّة الأولى، صار السنّة يبحثون في العاصمة عن معنى الانتماء، بعدما كانوا يرونه خلف الحدود والجبال وفي الصحارى العربية، أو في عاصمة الأمبراطورية المنهارة، وفي أحلام الوحدة من المحيط إلى الخليج.

(غداً الحلقة الثالثة: الحريريّة تنتصر وسنتان من التحوّل إلى الفئويّة)