كامل جابر
ينادونها «مستعمرة» في عيترون. وهي تجمّع البيوت المؤقتة التي انتقلت إليها عائلات جنوبيّة بانتظار إعادة إعمار بيوتها المهدّمة. لكنّ الانتظار طالت مدّته، وما سمّي «بيوتاً جاهزة» تبيّن أنّه يفتقر إلى مقوّمات الحياة الأساسية من ماء وكهرباء. كيف يعيش الجنوبيون في «مستعمراتهم» الجديدة؟ هنا محاولة للإجابة

لا تغرّ المظاهر الروّاد الجدد للمستعمرة النموذج في عيترون. فقد انتقل هؤلاء من نعيم جدران وسقوف من إسمنت، وحقول مغروسة بالزرع، إلى أبنية جاهزة من «تنك» محدّث وألومينيوم وبعض المواد الواقية، يحوطها الجماد. وعلى أمل انطلاق ورشة إعادة البناء المنتظرة، لا يبدو أنّ «المستعمرة» تقوم بدورها، وغالباً ما يضطرّ المستعيضون بـ«كابيناتها» عن دمار بيوتهم إلى مغادرتها بحثاً عن الماء والكهرباء، وربّما عن إلفة المكان أيضاً.
سرت في عيترون لفظة «المستعمرة» على التجمّع السكني المبني من الهلال الأحمر السعودي، تحت عنوان «الإسكان السعودي رقم 1»، على أرض البلدية في محلة «المطّيط» شمال شرق عيترون. وإذا كانت اللفظة تُتداول من باب «الكنية» أو لتوصيف التجمع الجديد في عيترون، فإنّ حالها لا تشبه حال المستعمرات الإسرائيلية القريبة بقدر ما تشبه بؤس المخيّمات الفلسطينية.
فبيوتهم لا تحصل على الكهرباء والمياه بسهولة. فالخزّانات الموضوعة على «سقالات» من حديد سرعان ما هوت، بعدما تفجّرت شبكة الأنابيب تحت الأرض، مثلما تفجّرت المجاري الصحية، في وقت تدفقت فيه مياه الأمطار إلى داخل هذه البيوت من الأسفل حيث الأرض الداخلية لهذه البيوت تقع على مستوى الأرض الخارجية، ومن الأعلى عبر الشبابيك المكشوفة حيث لا شرفات تحميهاوإذا كان سكان هذه «المستعمرة» قد ارتضوا المساحات الضيقة للبيوت المتشابهة، وبعدهم عن وسط البلدة، والمكوث في محيط يسكنه السكون وتغيب عنه الجيرة، فكيف لهم أن يتحملوا غياب مقومات العيش الأساسية؟
يتألّف المحافظون على بقائهم في التجمع المفتوح على الفضاء من غير ظل أو شجر، من ست عائلات لا غير، من أصل 48 عائلة كان من المقرر أن تستبدل بالتجمع بيوتَها المدمرة إلى حين بناء البديل.
ويؤكد أحد سكان التجمّع، أبو علي، أنّ «المتعهّدين أخلّوا بموجبات البناء والتجهيز، فجاء كلّ ما فعلوه «خنتريش»، وسرعان ما «نفّست» أنابيب المياه، وسقطت الخزانات عن أعمدتها، وها نحن نأتي بالماء من المحطة الرئيسة مباشرة، فخزان المياه الكبير يفقد محتواه بعد وقت قصير على ملئه». ويتابع أبو علي: «أمّا الكهرباء، فتعتمد على مولّد 300 KVA، جهّزوا به التجمع وقالوا شغلوه! وهو يحتاج إلى تنكة ونصف تنكة في الليلة الواحدة، فمن أين نأتي بثمنها ومعظمنا عاطلون من العمل؟».
ربّما كان يجب على بلدية عيترون توفير المحروقات لمولّد التجمع. لكنّ البلدية كانت قد دفعت من صندوقها نحو تسعين ألف دولار في التجهيز والترميم، لم تستردّها بعد. ويبدو أن «العين بصيرة واليد قصيرة»، فرفعت البلدية الأمر إلى شركة الكهرباء و«تلقّت وعداً شفهياً بأسلاك ومحوّل». لكن دائرة الكهرباء في بنت جبيل بلّغت المراجعين من سكّان التجمع: «لا نعترف بأي كلام شفوي. يبدو أنّ علينا انتظار تأليف حكومة وحدة وطنية، وعيش يا كديش».
في داخل البيت، تنهمك أم محمد حجازي بتقطيع الخضر في صدر غرفة الاستقبال، تهيئةً لغداء الأولاد الذين سيعودون من مدرستهم قرابة الثانية والنصف. أمّا لماذا اختارت غرفة الاستقبال لإعداد الطعام، «فلأن المطبخ لا يتسع لحراك ربة منزل، فمساحته متر بمتر، وهو أقرب إلى المغسلة منه إلى مطبخ. وهناك غرفتان للنوم لا تتعدّى مساحة الواحدة تسعة أمتار مربعة، وهي غير صحيّة للأولاد، إذ «تعرق» سقوفها وتتساقط منها قطرات المياه». أما المساحة الإجمالية لسكن العائلة فيصل إلى نحو 44 متراً مربعاً. لذلك، تقول أم محمد، «أعدّ الطعام هنا، والغسيل نذهب به إلى البلدة، إلى عند أقاربنا، إذ لا غسالات لدينا، لأنه لا كهرباء، ولا مياه وافية كذلك، والصحون والأواني نغسلها خارجاً».
تصل أمينة محمد السيّد، التي كانت «تتمشى» في الجوار، لتلقي تحياتها على المتظلّلين شمس شباط في التجمّع ابتغاء لبعض الدفء. وتمنّي أمينة نفسها بعبارات من هنا وهناك «هذه بيوت مؤقتة، عندما نقبض سنبدأ بالبناء. رجعت أغسل على إيدي، عمري بين 61 و62 سنة، وأنا صاحبة أمراض: قلب مفتوح وسكري وضغط، فكيف لي بالغسيل؟ أيجوز السكن بالـ«بهدلة»، أمس طافت المجارير علينا، وأتينا بالذي اشتغل بها، ولم يهتد إلى «الريغار» المسدود، وضعونا هنا وتركونا!»الكلام نفسه تردّده وفاء عبد الله قائلة: «لا أحد يسأل عنا، كأننا في منفى». تتّقي وفاء تدفّق مياه المطر إلى البيت «بالرحيل من غرفة إلى غرفة، وأحياناً، إلى بيت مجاور، غير مسكون، أقل ضرراً». وتتابع «كلما احتجت إلى المياه، عليّ أن أذهب أكثر من خمسين متراً. عندي أربعة أولاد، منهم ثلاثة في المدرسة، يلهون بالجوار، لكن بحذر، مخافة وجود أفاع أو عقارب أو حشرات لاسعة. وستزداد مخاطر هذه الكائنات المؤذية مع اقتراب الربيع والصيف». ولا تبدو وفاء متفائلة بالمستقبل «إذ لا يبدو في الأفق أنّ بيوتنا سيبدأ بناؤها في القريب العاجل. ننتظر التعويضات، ولم يحصل بعضنا إلا على ثمن أثاث من «جهاد البناء»، وأشد ما نخاف منه أن نبقى في هذه البيوت وقتاً طويلاً، فكيف سيكون صيفها من دون كهرباء أو مياه؟».
يتناوب سكان التجمع على التعاون لتوفير الطاقة الكهربائية ليلاً من مولّد صغير يتولّون مصاريفه مداورة. وتنقضي سهراتهم «روتينيّة» بين لعب الورق، وتداول همومهم وأحلامهم «لو وصلت التعويضات المقررة، لعدنا إلى بيوتنا التي اشتقنا إلى وجودها»، يقول حسين عوباني زوج وفاء، ويردف: «نحن هنا لا نتحدث في السياسة، وأكثر ما يقلقنا هو العدو الإسرائيلي. يوم الاعتداء على مارون الراس، تركنا بيوتنا ولجأنا إلى الضيعة، نحن قريبون جداً من الحدود، ولا نعرف ما قد يفعل بنا العدو».
وإذ يلوّح أبو محمد، علي حجازي، بالتصعيد والاعتصام، «إذا تُركنا هنا على هذا المنوال»، فإنّ أكثر ما يقلق أبو علي هو «تناسي الجهات المعنية وجودنا. ها نحن في البراري من دون نور ومصادر عيش، بانتظار التعويضات. ربما تؤجلها الدولة لكي تعطينا فوائد الأموال».

مهجّرون في قراهم

ستة أشهر مرّت على عدوان تمّوز، وورش الهلال الأحمر السعودي تدور في أكثر من مكان. أنجزت ثلاثين وحدة في كفرا، وسلّمتها إلى البلدية لتسلمها بدورها إلى أصحابها المتضررين. ويجري العمل في ثلاثين وحدة أخرى في بلدة مركبا، لتبدأ لاحقاً ورشة من ثلاثين وحدة في بلدة الطيبة، وكذلك في مروحين. يطرح ذلك أسئلة عدة، منها:
ــ ما جدوى هذه المنازل، بعد مرور هذه الأشهر، وفي هذا الوقت المهدور، الذي كان يكفي لإعادة بناء البيوت المدمّرة؟
ــ إذا كانت بعض تجمّعات البيوت الجاهزة لم تُبنَ بعد ستة أشهر، فإلامَ تشير بعض الورش التي ستبدأ تالياً، هل إلى تأجيل بناء البيوت المدمرة إلى سنوات لاحقة؟
تؤكد هذه الأسئلة حقيقة مخاوف القاطنين داخل تجمّع عيترون أو الهاربين منه، من أنّ الدولة قد ترمي بأصحاب البيوت المتضررة في هذه «المخيمات» الموقتة، إلى أجل غير مسمى. فيضحون مهجرين في قراهم، متلهّين بهموم الماء والكهرباء ولقمة العيش، ما قد يشغلهم عن أحلام العودة إلى بيوت يطالبون ببنائها، بمطالب لتأهيل بيوت التجمع، وهي مطالب تطول اللائحة في تعدادها وسردها!