نقولا ناصيف
أبلغ مسؤول أمني إلى المراجع الرسمية ضرورة التوقّف باهتمام عند المدة الفاصلة بين الأسبوع الأول من آذار المقبل والأسبوع الأخير منه، وهي المدة التي ستكون، في رأيه، مرشحة لأحداث قد يكون بعضها خطراً ومربكاً للاستقرار الداخلي. واستند في تقديره هذا إلى التشنج السياسي القائم وانعدام فرص الحل حتى انعقاد القمة العربية في الرياض، فضلاً عن معلومات متوافرة لديه عن تدفق أسلحة خفيفة على أكثر من جهة محلية. وتشير هذه المعلومات إلى وصول 700 فلسطيني من المنتمين إلى تنظيمات أصولية سنية مقيمة في مخيم نهر البارد إلى بيروت في الأسابيع الأخيرة وانتشارهم في بعض أحيائها، وكذلك وصول أسلحة إلى تنظيمات محلية عبر الحدود البرية مع سوريا، ومن البحر بتسهيلات من جهات رسمية. والمعطيات المتوافرة لديه تنفي وجود مخيمات تدريب على الأراضي اللبنانية للتنظيمات المحلية، من غير استبعاد حصول تدريبات في عدد من الدول العربية التي تربطها بزعماء سياسيين علاقات خاصة.
وإذ يقول المسؤول الأمني إن هذه المعلومات كانت لأسابيع خلت تكهنات تسببت تارة بنفي مراجع رسمية وشخصيات سياسية لها وطوراً بقلق ضمني كان يجعل هذه الشخصيات تتظاهر بأنها لا تصدّق الأمر، لكنها أضحت اليوم حقائق ملموسة تستمد خطورتها من المأزق الذي يطبق على الغالبية والمعارضة معاً. والمقصود بذلك، يقول، أن الشارع والسلاح الخفيف المنتشر بين الناس يكاد يصبح في صلب الضغوط المتبادلة بين الطرفين اللذين يتصرّفان كأنهما ذاهبان إلى حرب ما.
تتقاطع معلومات المسؤول الأمني مع المراوحة التي تشل الوضع الداخلي في انتظار نتائج القمة العربية نهاية الشهر المقبل، والتأكد من مشاركة الرئيس السوري بشار الأسد فيها أو انتدابه وزير الخارجية وليد المعلم. وفي الحال الثانية، لن يقتصر موقفه هذا على التعبير عن تجاهله انعقاد القمة، بل ليؤكد بتغيّبه أن المصالحة بين الرياض ودمشق لا تزال مؤجلة، وأن البديل من ذلك تصاعد نبرة التشنج السياسي في لبنان.
واستناداً إلى ما تعكسه شخصية بارزة في الغالبية، يرتكز التوازن القائم حالياً على عناصر قوة أبرزها:
1 ــــــ لا إقرار وشيكاً للمحكمة ذات الطابع الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ولا حكومة وحدة وطنية. وقد تأكد للغالبية أنها من دون موافقة رئيس المجلس نبيه بري لا تستطيع فرض إقرار المحكمة الدولية على المعارضة. وتأكد للأخيرة أنها، من دون تسوية سياسية مسبقة ومقنعة للغالبية، لا تستطيع إرغام حكومة الرئيس فؤاد السنيورة على الاستقالة وتأليف حكومة وحدة وطنية بثلث معطل للمعارضة. بذلك التقى طرفا النزاع على تعادل سلبي أتاح لكل منهما تعطيل الأولوية التي يتشبث بها الطرف الآخر.
2 ــــــ بدأ كل من الغالبية والمعارضة توجيه معركته السياسية نحو انتخابات رئاسة الجمهورية التي يشكل خوضها مصلحة مشتركة للطرفين، نظراً لحاجة كل منهما إلى موقع رئيس الدولة لحسم صراعه مع الآخر. والواضح من وطأة التجاذب الذي يحوط بموضوعي المحكمة الدولية والحكومة الجديدة، أن الطرفين على أهبة مواجهة مكشوفة حول استحقاق قد لا يكون فيه مكان لمرشح توافقي. ومع اعتقاد فريق الغالبية بأنه يمسك بزمام مبادرة إجراء انتخابات رئاسية وفق تفسيره للمادة 49 من الدستور وخارج مبنى مجلس النواب ودونما حاجة إلى ترؤس بري الجلسة في 14 تشرين الثاني المقبل، ومعوّلاً كذلك على اعتراف دولي وعربي حتميين بالرئيس المنتخب الخارج من قوى 14 آذار يضفي على الانتخاب شرعية وطنية ودولية، تتصرّف المعارضة على قاعدة أنها تملك بدورها زمام مبادرة تعطيل الاستحقاق ما لم يُجرَ توافقياً، وسلاحها في ذلك لا يقتصر على تحريك الشارع، بل الحؤول دون التئام غير دستوري للمجلس.
يعزّز هذه الذريعة ما سمعه نائب بارز في الغالبية من رئيس المجلس، وهو يعرب له عن خشيته من ألا يكون في وسع نواب الغالبية الوصول إلى حيث يريدون الاجتماع في مبنى مجلس النواب أو خارجه. وفسّر النائب البارز العبارة بأنها أقرب إلى تهديد مبطن.
وهكذا تريد قوى 14 آذار من الاستحقاق الرئاسي استكمال حلقات مصادر السلطة التي تجعلها تمسك بالحكم تماماً، وهي الأكثرية النيابية وثلثا مجلس الوزراء والتوقيع الدستوري لرئيس الدولة. وهي تعتقد أن في وسعها تكرار تجربة اتفاق الطائف الذي اكتسب شرعية عربية ودولية، أقواها بيان أصدره مجلس الأمن مؤيداً هذا الاتفاق، قبل أن يصوّت عليه مجلس النواب في 5 تشرين الثاني 1989 في القليعات، وقبل أن يدخل صلب الدستور في جلسة البرلمان يوم 20 آب 1990. كانت هذه حال انتخاب الرئيس رينيه معوض في 5 تشرين الثاني، فيما الحكومة الدستورية برئاسة العماد ميشال عون فقدت اعتراف المجتمعَين العربي والدولي بها.
3 ــــــ خلافاً لواقع مشكلتي المحكمة الدولية والحكومة الجديدة حيث دور الرئيس إميل لحود هامشي، فإن موقعه في الاستحقاق الرئاسي أكثر فاعلية. ومن دون أن يكون جزءاً من الآلية الدستورية لإجرائه، يحتفظ لحود بهامش مناورة يستطيع تعطيل انتخابات رئاسة الجمهورية، أو في أبسط الأحوال وضعها في مأزق دستوري ووطني خطير. وبحسب ما يتسرّب من أوساط على صلة به، فإن لحود، عبر ما يسمعه من المحيطين به وبعض مستشاريه قد يجد صعوبة في تبرير تمسكه بالموقف الذي سبق أن أعلنه قبل عشرة أيام، وهو أنه لا يسلّم الحكم إلى حكومة غير دستورية. وفُهِم الأمر على أنه سيبقى في قصر بعبدا ولا يغادره إلا بعد انتخاب خلف دستوري له يسبقه توافق طرفي النزاع عليه، الأمر الذي يرتب على الرئيس الحالي مضاعفات خطيرة، أقلها اتهامه باغتصاب سلطة بعد انقضاء ولايته الدستورية، وملاحقته قضائياً. وفي ضوء إدراكه أن الغالبية بانتخابها رئيساً للجمهورية بنصاب الأكثرية المطلقة لانعقاد مجلس النواب ستفرض أمراً واقعاً على الجميع، أصبح لحود أكثر ميلاً إلى أن يعمد إلى فرضه، هو الآخر، أمراً واقعاً على قوى 14 آذار بإصداره مرسوماً يعتبر الحكومة مستقيلة وإجراء استشارات نيابية ملزمة تفضي إلى تسمية رئيس مكلف للحكومة يؤلفها الأخير دون أن تمثل أمام مجلس النواب، ويسلم إليها لحود في الوقت نفسه قصر بعبدا على أساس أنها حكومة دستورية تناط بها مجتمعة صلاحيات رئاسة الجمهورية وكالة.
مجازفة كهذه تبدو حجتها الدستورية ضعيفة ومكلفة أكثر من تلك التي تقدم عليها قوى الغالبية بانتخاب رئيس يستمد شرعيته الدستورية من الدعم الخارجي. وعلى غرار الواقع الذي تتخبط فيه حكومة السنيورة اذ تبدو أقوى بالدعم الدولي لها من الدعم الداخلي، فإن كفة التوازن في مواجهة مجازفات كهذه هي الشارع والفوضى.