نقولا ناصيف
في الأيام الأخيرة قطع طرفا النزاع في الغالبية والمعارضة الأمل في التوصّل قريباً إلى اتفاق بينهما خارج نطاق شروط كل منهما. وفي منأى عن التجاذب الإقليمي الذي يطبق على الخلاف الداخلي، بشقيه السعودي ـ الإيراني والسعودي ـ السوري، وشقيه الأميركي ـ الإيراني والأميركي ـ السوري، فإن فريقي الداخل أسهبا في إضفاء طابع محلي على الخلاف، وكأن المشكلة تقتصر على النصاب الذي يقبلان به لحكومة الوحدة الوطنية، أو أن تباين الموقف من المحكمة ذات الطابع الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري لا يتعدى إطار مراجعة الصيغة النهائية لمشروعها. وهكذا يحاول طرفا النزاع، على أبواب انتخابات رئاسة الجمهورية الصيف المقبل، إكساب المواجهة بعداً يمكّن كلاً منهما من أن يكون ناخباً كبيراً في إدارة هذا الاستحقاق، وفي أن تكون له كلمة مؤثرة في اختيار الرئيس الجديد.
وتعبّر عن هذا الاهتمام بضع ملاحظات منها:
  • 1 ـ الاعتقاد السائد في أوساط قوى 14 آذار بأن التسوية التي اقترحها الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، والقائلة بمعادلة 19 + 10 +1 لحكومة الوحدة الوطنية وتعديل المحكمة الدولية في لجنة تضم طرفي النزاع، لا تعدو كونها موقتة وانتقالية حتى إجراء انتخابات رئاسة الجمهورية. فتكون بمثابة هدنة بينهما توقف إيقاظ التشنج المذهبي وتضع حداً للاعتصام المفتوح وإخراج الناس من الوسط التجاري، حتى يتمكنا من مناقشة الاستحقاق الرئاسي والتفاهم على رئيس توافقي. تقتضي هذه الآلية اقترانها بوقف الحملات الإعلامية وسلطة تنفيذية مكتملة غير مشوبة بعيب سياسي ودستوري. وفي الوقت نفسه تكون المحكمة الدولية قد أقرت نهائياً في الحكومة الجديدة ومجلس النواب لكونها لا تدخل في حسابات الرئاسة اللبنانية، ولا تشكّل جزءاً من أي مقايضة سياسية. على هذا النحو تدرج قوى 14 آذار تسوية موسى، ولا تحمّلها أكثر مما ينبغي، ولا تجعلها خصوصاً قابلة للاستمرار بعد إجراء انتخابات الرئاسة التي سينبثق منها أمر واقع جديد.
  • 2 ـ فتح باب المنـاورات السياسيـــــة المبــــــــكرة في انتخابات رئاســـــة الجمهوريــــــة شأن قول قوى 14 آذار إنها قادرة بنصاب الأكثرية المطلقة التي تملكها في مجلس النواب على تحقيق التئامه وفرض مرشح من صفوفها رئيساً جديداً للجمهورية يحظى باعتراف عربي ودولي متجاهلة موقف الطــــــرف الآخر، وقـــــــول المعارضة إن إجراء كهذا يقود إلى الانهيار الشامل بما في ذلك انفلات الشارع. وعندئذ لن يكون ثمة ما يمكن الرئيس الجديد، رئيس الأمر الواقع، أن يحكم لأجله أو به.
  • 3 ـ ربط الغالبية استعدادها لتقديم تنازل جوهري في السلطة، والمقصود بذلك الثلث المعطل للمعارضة، بانتخاب رئيس جديد للجمهورية من صفوف قوى 14 آذار كي يتولد توازن سياسي ودستوري جدي في البلاد، فيكون رئيس الجمهورية الآتي من مقاعد الغالبية ضمان تسيير الحكم والسلطة التنفيذية في مقابل امتلاك المعارضة الثلث زائداً واحداً في مجلس الوزراء، فلا ترجح كفة جهة دون أخرى في السيطرة على الحكم. وكما في وسع المعارضة من خلال الثلث المعطل إرغام الحكومة على الإستقالة، يكون في وسع رئيس الجمهورية الدعوة إلى استشارات نيابية لتأليف حكومة جديدة تتكئ على الأكثرية النيابية. وهكذا لا يملك أحد الطرفين حق النقض دون الآخر.
    ويعتقد سياسي بارز في قوى 14 آذار أن مقايضة الثلث المعطل للمعارضة برئيس للجمهورية من الغالبية تحتم تعاوناً متكافئاً بين الغالبية والمعارضة في مجلس الوزراء.
  • 4 ـ رفع متبادل لنبرة التصعيد في الخلاف على موضوعي المحكمة الدولية وحكومة الوحدة الوطنية واعتبارهما مشكلتين غير قابلتين للحل، بغية فتح باب تفاوض مسبق على الاستحقاق الرئاسي، الذي من شأنه إعادة بناء التوازن السياسي والدستوري في البلاد سواء انتخب رئيس توافقي أو نقيضه، أي «رئيس تحدٍّ» بالنسبة إلى المعارضة تبعاً للعبارة التي شاعت عام 1988، وسببت تعطيل انتخابـــــات رئاســـــة الجمهورية سنتذاك.
    ويرمي ذلك إلى إبراز القوى الساعية لأن تكون الناخبة الفعلية والنافذة في الاستحقاق الرئاسي، ما دامت هي القادرة على الوقوف في وجه أي تسوية أو اقتراحات حلول لا تأخذ في الاعتبار مصالحها وحساباتها السياسية. والواضح أن التطورات التي أعقبت الإضراب العام في 23 كانون الثاني ثم حوادث الشغب المذهبي في 25 منه حددت نهائياً، حتى الآن على الأقل، القوى الثلاث الناخبة داخل أفرقاء 14 آذار في الاستحقاق الرئاسي، وهي تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية. وبين هؤلاء تكاد تكون القوات اللبنانية وحدها صاحبة خبرة ومراس ناجحين في الانخراط في انتخابات رئاسية صعبة يتداخل فيها المحلي بالإقليمي: عندما جلبت النواب ــــــ بعضهم بالاستمالة والبعض الآخر بالقوة تقريباً ــــــ إلى جلسة انتخاب الرئيس الراحل بشير الجميل في 23 آب 1982، وعندما منعت بالقوة أيضاً النواب من الذهاب إلى جلسة انتخاب «مرشح التحدي» الرئيس سليمان فرنجية الذي اقترحته دمشق في 17 آب 1988. أما التنظيمان الآخران فحالهما تفتقر إلى دروس مماثلة. قاطع الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة كمال جنبلاط جلسة انتخاب الرئيس الياس سركيس في 8 أيار 1976، عاجزاً عن مواجهة دمشق التي كانت تقود إجراء تلك الانتخابات. وأيد خلفه في زعامة الحزب وليد جنبلاط بكتلته النيابية القليلة العدد انتخاب الرئيس رينيه معوض في 5 تشرين الثاني 1989، ثم الرئيس الياس الهراوي في 24 تشرين الثاني 1989، في استحقاقين كانت تدعمهما سوريا حليفة الحزب. وفي الزمن القريب، عارض جنبلاط ونواب حزبه وكتلته البرلمانية انتخاب الرئيس إميل لحود في 15 تشرين الأول 1998، والذي أيدّه حليفه الرئيس رفيق الحريري. أما تيار المستقبل فيبدأ في استحقاق 2007 من الصفر. وما خلا استحقاق 1982، كانت دمشق صانعة الانتخابات الرئاسية اللبنانية على امتداد 28 عاماً.
    ولأن القوى الثلاث هذه مرشحة، في حال تفشّي الفوضى، لأن تكون ميليشيات الدفاع عن حكومة الرئيس فؤاد السنيورة وشرعية بقاء قوى 14 آذار في الحكم، فإن كلاً منها يريد أن يقارب انتخابات الصيف المقبل على أساس أنه صانع شرعية دستورية جديدة في رئاسة الجمهورية مناوئة لسوريا.