strong>جان عزيز
ظلمٌ أن تقضي عمر معرفتك بإنسان، في حسرة أنك لم تعرفه من قبل، أنك لم تعرفه من القَبْل الأونطولوجي حتى. وظلم أكبر أن تقطع حسرتك تلك بحسرة أكبر، حسرة أنك لن تعرفه بعد...
لم يسقط اللقاء الأول في النسيان. وقد لا يفعل. كان ذلك قبل نحو خمسة أعوام، في الذكرى الأولى لأحداث 7 آب 2001. لفتته كلمة في احتفال المناسبة. تولّت زميلة بادرة الاتصال واللقاء. جلس مستمعاً أكثر. لكن، كما دوماً، قال الأعمق. وسط الحديث سأل بحيوية تشي بجوابه: «كيف تطيقون الحياة 24 ساعة في اليوم، مع أناس مثلكم تماماً؟ ألا يطلع على بالكم أن تروا للحظة وجهاً آخر، صوتاً آخر، رأياً آخر؟».
خفّفت بسمته الثاقبة حراجة السؤال. غير أن كل الايام التالية عادت فأثقلته. هل يُعقل أن أكون أنا «مزوَّراً» في «حريتي» و«تعدديتي» و«توافقيتي» و«خصوصيتي» وكل ذرائعية ما أنا عليه؟ وهل يعقل لهذا الآخر أن يكون هو «الحقيقي»؟ الآخر الذي نسجنا العمر حرفة «اتهامه» ودربة «تخوينه»، الآخر الذي ربطنا مصيرنا بالقدرة على وصمه بالإلغائية والتذويبية والصهرية و«التَوتَلة»... هذا الآخر نفسه، يبدو حقيقياً أكثر مني، في عيشه ما أنا، وما أريد أن أكون، وما أدّعي وأطمح وأتذرّع وأعمل.
أمس، رحل «الحقيقي». أعادنا بلحظة من قلبه، بسكتة من قلمه، إلى زمن أقلام الصدى وحروف الترداد وآراء ما قبل سؤاله. رحل الحقيقي قبل أن يروي كل ما لديه من حقائق. رحل قبل أن يريني المسوّدة الأولى لميثاق «حركة المسيحيين العرب» المكتوب بخط يده، وقبل أن يفصِّل انقلابات الرفاق الأوائل، بعدما ضحك لهم وعليهم طويلاً. رحل قبل أن يكتب قصة ذلك النائب ــــــ الرفيق الخارج من تغرُّب إلى تغرُّب أكثر مفارقة. وقبل أن يكمل طرفة عشائه الفرنسي مع وليد جنبلاط، «الوارث حركة يسارية عن أبيه»، وقبل أن يكمل سلسلة خوف زعمائنا من «التحقق الذاتي لنبوءاتهم» المريضة. وقبل أن نناقش ما همسَه من الأسرار الذاتية للمقابلة الصحافية الوحيدة التي أجراها في «الأخبار»...
رحل الحقيقي، بقي كذَبة كثيرون. وبقي الرجاء بالبقاء خبراً، يميّز بين الاثنين.