strong>رنا حايك
كانت الساعة الواحدة بعد الظهر عندما خرج جورج موسى من مكتبه ووقف في وسط غرفة «ثقافة وناس» ليسألنا: «جوزف مات»؟
- مين جوزف؟
- جوزف سماحة... أمل عم تبكي جوا...
«توفي جوزف سماحة»... يقول هيثم الموسوي. من أخبرك؟ كيف عرفت؟ «هم يقولون» يجيب.
يجتمع الزملاء في الممر. الوجوم يرتسم على وجوه الجميع ولا أحد يجرؤ على السؤال للتأكد من الخبر.
لا شك أن أمل الأندري تعرف. كانت تبكي. نسألها فتجيب: «اتصل بي حسين بن حمزة ليسألني».
لكن الأسئلة لا تقابل إلا بأسئلة إضافية. لا أحد يعرف بعد. ليس اغتيالا ًبعد أن تعودنا الاغتيالات. ليس حادثة. إنه موت عادي. أسخف من أن يليق بجوزف...
أروقة الجريدة تعج بالمنتحبين. بعض الزملاء لم يصلوا بعد. هل نتصل بهم؟ لا، لا نستطيع إخبارهم على التلفون. مهى زراقط تخالف هذا الرأي، ربما علينا الاتصال ببيسان طي وإخبارها. تمضى الدقائق تحت وقع الصدمة ويصيب الشّلل كل الموجودين. بشكل غريزي، يتوجه الجميع إلى مكتبه الفارغ. صباح أيوب لا تقوى على الوقوف. تشرّع باب مكتبه الذي لم يغلق مرّة في وجه أي زميل.
الأصوات منخفضة وكأن الصوت العالي والنطق بالخبر سيكرّس حدوثه. ربما إذا توقفنا عن ترديد الخبر يعود. العيون منكّسة تعجز عن رؤية كرسيّه الخالي الذي لن يجلس عليه بعد اليوم. إحساس بالغضب وبالغبن لا يجرؤ أحد على إعلانه. فلا أحد يقول: «ليش؟» في وجه الموت. كيف سيمضي الجميع في الإبحار بسفينته؟ لماذا رحل فجأة عن الحلم قبل أن يكتمل؟ ورّطنا به جميعاً ومضى..
الرواق مزدحم. تصل بيسان. ربما كان يجدر بنا الاستماع إلى وصية مهى وإخبارها.. تقع منهارة أمام مشهد العيون الحمراء المصدومة. الماء والسكّر لا ينفعان. نمسك بلسانها خوفاً من أن تبتلعه كما يحدث لمن يصاب بالصدمة العصبية. تدور عيناها في المكان وكأنها لا تتعرّف علينا. نصيح بها: «صرّخي. طلّعيهن لبراّ...»
بلال جاويش قرأ الخبر على شريط الأخبار في قناة الجزيرة. فحمل كاميرته وجاء. هذه المرة الخبر ليس لجوزف. هذه المرة جوزف هو الخبر. خبر يتلقّاه زملاء دربه في جريدة السفير فيأتون. يقطعون المسافة القصيرة التي تفصل مبنى مؤسستهم عن مبنى الكونكورد حيث تقع مكاتب جريدة الأخبار. فجوزف لم يبتعد عمن أحبوه وأحبّهم.
في التاسعة مساء، يتوافد أفراد من حركة الشعب إلى مبنى الكونكورد. تضيء شموعهم عتمة الباحة. بصمت مهيب يقفون، يحملون صوره وشموعاً عجز هواء بيروت عن إطفائها، وكأنها كلمات جوزف التي تتحدى دائماً «أهواء» مدينة تقطّع أواصرها «الأهواء» أكثر من أي وقت مضى.
لماذا يرحل الشرفاء وغير المرتهنين باكراً؟ يسبقون غيرهم إلى قطار الموت.
جوزف سماحة، لن نبكيك. أولاً لأننا ما زلنا لا نصدّق أنك لن تطل علينا كلّ صباح. ثانياً لأن ما يملؤنا هو حزن ممزوج بالغضب. رغم إدراكنا بأن الموت حق وبأن حدوثه أمر محتوم، يفرض الغضب نفسه. ما كان يجب أن يحلّ الآن. بأسلوبه السادي والمبتذل في انتزاعك منا هكذا على غفلة. حتى قبل أن يزيد عدد صفحات الجريدة إلى 32 صفحة ويكتمل المشروع؟! حتى قبل أن تعرف ماذا سيحلّ باللبنانيين الذين أدمنوا قراءة خطك الأحمر ونزاهتك في أحلك الظروف؟
جوزف سماحة. لن نبكيك ولن نرثيك. لن نضع الورود على قبرك الآن. ليس قبل أن نصدّق خبر رحيلك. حتى يحين ذلك الموعد، سنكتفي بلعن الأقدار....