(الافتتاحية الأخيرة في 20 شباط الجاري)
جوزف سماحة

فشلت كوندوليزا رايس في اختبارها الفلسطيني الأول. لم تكن هذه المرّة قادمة لتبحث في أمور تفصيلية. كانت تريد، بناءً على نصيحة تسيبي ليفني، «فتح أفق سياسي». يعني ذلك تدشين البحث في قضايا الحل النهائي وهي قضايا كان يفترض أن تكون قد دخلت حيّز التنفيذ عام 1999 حسب «اتفاق أوسلوما سمّي «فتح أفق سياسي» هو تكتيك في استراتيجية أميركية عامّة شعارها استئناف الهجوم على المنطقة واستخدام المسار السياسي قاعدة ينهض عليها تحالف إقليمي جديد باسم «إعادة الاصطفاف» ووضع «المعتدلين» ضد «المتطرّفين».
عندما حدّدت رايس موعداً لزيارتها لم تخف الإدارة أن الهدف إبعاد «فتح» عن «حماس»، بما أن كلاً من الطرفين في معسكر، وجعل العلاقة بينهما محكومة بالعلاقة المطلوبة بين هذين المعسكرين: المواجهة. أضيف إلى ذلك أن التلويح بـ«أفق سياسي» يسلّح «المعتدلين» بالتحرّر من «المتطرّفين» تمهيداً للحصول على «ثمرات السلام».
اندلعت معارك غزة في هذا السياق. إلا أن الفلسطينيين أمام انفتاح أبواب الهاوية اتخذوا قراراً بديهياً وقرّروا تفضيل الحد الأدنى من السلم الأهلي على التدمير الذاتي الذي لا يبقي أحداً منهم لقطف «ثمرات السلام». هذا إذا كانت الثمرات موجودة. لم يكن ممكناً للجسم الفلسطيني أن يبتر عضواً ويستمر على قيد الحياة. فضّل الفلسطينيون البقاء أحياءً فجاءت رايس تبلغهم أنهم ما داموا قد تجنّبوا الموت فإنهم باقون في سجن الاحتلال. الفلسطيني الذي يحصل على حقوقه الوطنية هو الفلسطيني... الميت.
هذه هي المقدمات السريعة التي أدّت إلى جعل «اللقاء الثلاثي» بائساً إلى هذا الحد. إلا أن اللقاء لم يكن ثلاثياً فقط. والأبعاد الخاصة بنتائجه تتجاوز أطرافه. والسبب في ذلك أن الاتفاق الذي استدعى معاقبة الفلسطينيين هو «اتفاق مكّة» الذي دعت إليه المملكة العربية السعودية، ورعته، وباركته، وحصلت على الثناء اللازم لدورها في إنجاحه.
وشاءت الصدفة أن يكرّر الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز موقفه من الاتفاق المذكور عشيّة اللقاء الثلاثي. فلقد تحدث أول من أمس أمام أعضاء مجلس هيئة حقوق الإنسان السعودية شارحاً أسباب الدعوة التي وجّهها، متوقفاً عند وقائع الاجتماع، مشيداً بما توصّل إليه ناسباً إلى الله الفضل في ما جرى. أوضح الملك أن الخوف من الاقتتال دفعه إلى التحرّك من أجل «وقف إطلاق النار بين الإخوة وتشكيل حكومة يرضونها كلهم وتمشي أمور الدولة وهذا ما نريده».
إذا كان هذا هو موقف المملكة من الاتفاق فإن التحالف الأميركي ـــــ الإسرائيلي لا يعاقب «فتح» و«حماس» فقط بل يعاقب الدور السعودي في الساحة الفلسطينية. ويمكن القول، بهذا المعنى، إن اللقاء الذي فشل هو «اللقاء الرباعي» لا «اللقاء الثلاثي» فقط. وهذا تطوّر لافت رفضت رايس التعليق عليه عندما سألها ألوف بن المحرّر في «هآرتس»: هل أنت مستاءة من عباس أم من الملك السعودي؟ قدّمت جواباً هو آية في النفاق، إذ كرّرت أنها ضد الاتفاق وضد إراقة الدم الفلسطيني!
الحقيقة أن رايس، باتخاذها موقفاً من «اتفاق مكّة»، إنما تتخذ موقفاً من «حاكم مكّة» أو، على الأقل، ممّا يرى أنه أبسط واجباته حيال الفلسطينيين.
قد يقول قائل إن الأمر ليس جديداً وإن التاريخ حافل بأمثلة على تباين أميركي ـــــ سعودي في هذا الموضوع. هذا صحيح لكننا، اليوم، أمام معطى جديد. لقد رفض جورج بوش مشروعاً سياسياً أميركياً بالتوجّه نحو تسوية شاملة في المنطقة. وبرّر الرفض بأنه لا يريد الحوار مع إيران وسوريا وأنه يفضّل، عوضاً عن ذلك، التنسيق مع «الدول المسؤولة» وعلى رأسها السعودية. لكن في المرّة الأولى التي جرى فيها اختبار لمدى مسؤولية هذه الدول تبيّن أن بوش لا يرى في المنطقة سوى إسرائيل ونزعتها التوسعيّة، وأنه مصاب بعمى ألوان يمنعه من تمييز المعتدل من المتطرّف، وأنه لا يدرك إطلاقاً وجود حد أدنى لا يستطيع أي معتدل عربي أن يهبط دونه.
لقد بادرت الرياض إلى عقد اللقاء وفي ذهنها أمور كثيرة بينها الاستعدادات التي تجريها لاستضافة القمة العربية. ولقد اعتقدت، ربما، أن الاستراتيجية الأميركية الجديدة تفرض على واشنطن قدراً من التوازن بين الحليف الإسرائيلي والحلفاء العرب. لكن تبيّن، بسرعة، أن السلوك الأميركي ـــــ الإسرائيلي كرّر ما حصل في قمة سابقة مع المبادرة السعودية وكأن شيئاً لم يكن. لا عرض السلام المشروط بين العرب وإسرائيل الذي قدّمته السعودية مقبول من أميركا، ولا عرض السلام بين الفلسطينيين. إن العربي المعتدل كما ترسمه المصالح الأميركية ـــــ الإسرائيلية ليس موجوداً حتى الآن، لا بل إن قطاعات صهيونية واسعة نسبياً هي أكثر تمسّكاً منه بحقوق الفلسطينيين والعرب.
فشل اللقاء يحيل الموضوع إلى السعودية التي تجد نفسها أمام واجب الدفاع عن الاتفاق سواء بحمايته بين الفلسطينيين أنفسهم أو بتحمّل تبعاتهً عربياً وإسلامياً ودولياً.
إلا أن شرط ذلك إدراك أن المشكلة ليست في عدم الموافقة الفلسطينية الصريحة على شروط الرباعية بل في الرفض الإسرائيلي لأي تسوية تتضمّن انسحاباً وحلولاً لقضايا القدس واللاجئين.
إن الخيار الجدّي المطروح على عباس ليس أن يكون مع «حماس» أو مع «الدولة الفلسطينية». إن الخيار المطروح عليه هو أن يكون مع «حماس» والسعودية والوحدة الوطنية أو أن يكون مع أميركا وإسرائيل والحرب الأهلية وضياع الحقوق.
والخيار نفسه مطروح على الملك عبد الله.