كان جوزف سماحة متشائماً إلى أقصى الحدود في آخر مقالة وقّعها. قال إنّه يرى الأفق مقفلاً ومظلماً، ربّما لهذا السبب قرّر أن يرحل في صمت الليل وظلمته؟ اختار سريراً قصياً وبعيداً، هناك في ضباب لندن. خانه القلب ليلاً فانتزعه عن 58 سنة، منهياً مسيرة مهنية ثرية تمتدّ بين بيروت وباريس ولندن.هذا الكاتب والمحلّل السياسي والحالم قبل أي شيء آخر بنهضة عربية حقيقية، وُلد في الخنشارة (المتن الشمالي) عام 1949. أنهى دراسته الثانوية في مدرسة “الفرير” في بيروت لينتقل بعدئذ إلى الجامعة اللبنانية حيث تخرّج حاملاً ماجستير في العلوم السياسية. عمل في مجلة “الحرية” من 1972 حتى 1974، لينتقل بعد ذلك الى صحيفة “السفير” ويبقى فيها حتى 1978.
استطاع سماحة أن يجمع بين المهنية والالتزام العميق بقضايا النضال العربي، شارك في إصدار صحيفة “الوطن” وترأس تحريرها من 1978 حتى 1980. وما لبث أن عاد الى السفير وبقي فيها حتى 1984.
في عام 1984، غادر لبنان الى باريس، ليعمل مدير تحرير مجلة “اليوم السابع” التي أسّسها الكاتب الفلسطيني بلال الحسن، وبقي فيها حتى عام 1992، ليلتحق بعدئذ بصحيفة “الحياة” اللندنية كاتباً ومحللاً سياسياً.
بيروت نادته من جديد، وكان على موعد معها بعد انتهاء الحرب الأهلية. عاد فشغل منصب نائب رئيس تحرير “السفير” عام 1995، لينتقل عام 1998 الى “الحياة” رئيساً للأقسام السياسيّة فيها، ثم مديراً لمكتبها في بيروت حتى عام 2000. في عام 2001، شغل منصب رئاسة تحرير “السفير”، ثم استقال منها عام 2006 ليؤسس حلمه الخاص فكانت“الأخبار” التي أبصرت النور في 14 آب (أغسطس) 2006، وكان يتولى رئاسة تحريرها.
قبل أيام سافر جوزف سماحة إلى لندن لمؤازرة صديقه القريب حازم صاغيّة في مصابه برحيل زوجته، الناشرة والكاتبة والفنانة ميّ غصوب. لم يكن يعلم أنّ الموت ينتظره في مدينة الضباب، وأنّ قلبه المتعب من هموم هذا الوطن وقضاياه، سيخذله على حين غرّة... ويغدر برفاقه وأهله وأصدقائه وقرّائه.
بعد طول كتابة في الصحافة، وضع خلالها مقالات مرجعيّة رافقت تشكّل وعي جيل كامل قي لبنان والعالم العربي، وبعد ترجمات شتّى أبرزها كتاب تروتسكي “دراسات في الفاشيّة”، وضع كتابه الأوّل “سلام عابر: نحو حلّ عربي للمسألة اليهوديّة” (دار النهار ــ 1994). وبعد ذلك بسنوات وضع على عجل، بعد الرحيل العبثي لصديقه مارون بغدادي، كتاباً موجعاً عن “أخلاق الجمهوريّة الثانية” بعنوان “قضاء لا قدر” (“دار الجديد” ــ 1996).
رحل جوزف قبل أن يكمل مشروعه. ولداه أمية (30 عاماً) وزياد (29 عاماً) خسرا والداً محباً، و“الأخبار” فقدت معلّماً ومدرسة صحافيةً نجحت في المصالحة بين الالتزام بقضايا الوطن والموضوعية والمهنية في العمل الصحافي. الا أنّ لبنان هو الخاسر الأكبر. هذا الوطن فقد أحد القلّة القلائل الذين أفلتوا من زواريب الطائفية، وفقد أحد المؤمنين بنهضته وبخروجه من كبوته. وخسرته العروبة والديموقراطية اللتان لم يكن يفصل بينهما. افتتاحيته الصباحية “خط أحمر” ستغيب هذه المرة، لتتركنا أمام خسارة كبرى وفاجعة تضاف الى خسارات هذا الوطن.