إلياس خوري
أتساءل في زحمة هذا الموت اللبناني الكثير عن معنى الرثاء، لأجد أمامي فراغاً بحجم بلاد تقتل أبناءها منذ ثلاثين عاماً أو يزيد. تقتلهم اغتيالاً أو نفياً أو حسرةً أو ضياعاً. جيل التراجيديا اللبنانية هو الحكاية الناقصة التي لا تكتمل حتى بالموت. جيل الرهانات الخاسرة وتجديد الرهانات، جيل الأحلام المنكسرة والكوابيس التي تشبه الأحلام.
كأن الموعد الوحيد هو الموت. هكذا مات جوزف سماحة في لندن، ذهب الى موعد موت مي غصوب فوجد موته، كأن المصائر تتلاقى في النهاية، ضاربة عرض الحائط بالخلافات والرهانات المختلفة.
من “السفير” الى “الوطن” الى “اليوم السابع” الى “الحياة” الى “السفير” مجدداً وأخيراً الى “الأخبار”، من دون أن ننسى “بيروت المساء” ومنظمة العمل الشيوعي. كان جوزف سماحة طليعة جيله من الصحافيين. من الحركة الوطنية الى جريدة المقاومة الفلسطينية في باريس، ومن مرحلة ما بعد الحرب الأهلية الى مرحلة ما بعد السلام الأهلي، ومن المقاومة الوطنية الى المقاومة الإسلامية، كانت الرحلة طويلة ومتشعبة، وكان على الدروب أن تفرّق رفاق الدرب، كي يجدوا أنفسهم في خنادق مختلفة، بل متواجهة.
عندما أصدر سمير قصير مجلة “لوريان اكسبرس”، كتب أفضل نص عن جوزف سماحة، في وصفه أهم صحافي لبناني في جيله. فالرجلان عملا معاً في “اليوم السابع” في باريس، وكانت لهما تجربة مشتركة في السياسة والصحافة والثقافة. غير أن أيّام لبنان التراجيدية كانت تتوالى، وكنّا على موعد مع هذه الأزمة الكبرى التي يعيشها لبنان، منذ اندلاع انتفاضة الاستقلال. هنا كان المنعطف الذي مزّق الخطى، ليجد اليساريون أنفسهم في خندقين متقابلين، وكانت شهادة سمير قصير وجورج حاوي إعلاناً بأن الحياد مستحيل.
افترق الرفاق، وكادت اللغة أن تضيع، ومعها الهوية الوطنية الديموقراطية العلمانية، التي صنعها جيلنا بالحبر والدم. وكان الافتراق محزناً، لأنه كان على عتبات الموت. هل كنّا ندري أنّنا نفترق كي نموت، وأنّنا نختلف أمام النعاس الأبدي؟ أم كنّا على ثقة بأنّ الحياة سوف تترك لنا متسعاً من الوقت كي نلتقي في النهاية؟
لم تنتظرنا النهاية، ووجدنا أنفسنا أمام بوابة الموت المفتوحة التي تترك الحكاية ناقصة، وتضع نقطتها في وسط الجملة، جاعلةً من قصة جيلنا شظايا على الآخرين الذين سوف يأتون من بعدنا، أن يجدوا وسيلة لجمعها في حكاية واحدة.
ليس للحزن طعم واحد، لكنه يستطيع أن يزرع الألم في القلب.
وليس للخسارة من عزاء، لأننا نعيش ونموت في زمن الخسارة.